وفق حكاية رمزية في النص الفلسفي «هواينانزي» الشائع في عهد سلالة هان، يذهب رجل أحمق إلى السوق لشراء حذاء، وحين يكتشف أن الحذاء صغير، يقوم بقطع أصابع قدمَيه بدل الاعتراف بأن الحذاء لا يناسب مقاسه، والصين تطبّق مقاربة مماثلة على ما يبدو في تعاملها مع لقاحات «كوفيد19»، إذ تفيد التقارير بأن هذه اللقاحات لم تحقق نتائج إيجابية بقدر الابتكارات الغربية المنافِسة في التجارب العيادية، وخوفاً من الإحراج، يعمد صانعو اللقاح الصيني إلى انتقاء البيانات بدل نشر كامل النتائج.

يُعتبر إخفاء البيانات العيادية خطأً علمياً وسياسياً، ولا تستطيع معظم الدول النامية أن تحصل على اللقاحات الغربية وستتكل بشدة على اللقاحات التي أنتجتها الصين، ولهذا السبب، يجب ألا يُضعِف صانعو اللقاح الصيني ثقة الناس بمنتجاتهم خصوصا أن العالم أصبح بأمسّ الحاجة إليها.

Ad

يخفي صانعو اللقاح الصيني بياناتهم العيادية عن العالم، فقد نشروا حتى الآن تفاصيل مرتبطة بالمرحلتين الأولى والثانية من تجاربهم في مجلات مرموقة مثل «جاما» و»ذا لانسيت»، وبيانات ما قبل التجارب العيادية في مجلة «ساينس»، لكنهم لم ينشروا البيانات المتعلقة بالمرحلة الثالثة والمحورية التي تشمل مجموعات كبيرة من المشاركين، وفي المقابل نشرت شركات «فايزر– بيونتيك» و»مودرنا» و»أسترا زينيكا» ومعهد «غاماليا» الروسي بيانات عن المرحلة الثالثة من التجارب في مجلات مرموقة.

كانت شركة «سينوفاك» الصينية الأسوأ في هذا المجال، حيث اكتفت هذه الشركة بالكشف عن أجزاء صغيرة من البيانات المشتقة من تجاربها الخارجية المتنوعة للتأكيد على فاعلية لقاحها «كورونا فاك»، واستناداً إلى هذه التقارير، ادّعت وسائل الإعلام الموالية للحكومة الصينية أن «كورونا فاك» يستطيع أن يمنع الحالات الحادة من «كوفيد19» بنسبة 100%، لكن تقارير لاحقة تذكر أن نسبة الفاعلية بلغت 91% في تركيا، و78% في البرازيل، و65% في إندونيسيا، وذكر شركاء «سينوفاك» البرازيليون أن نسبة الفاعلية اقتصرت على 50.4%: بصعوبة تفوق هذه النسبة عتبة الحد الأدنى التي حددتها منظمة الصحة العالمية (50%) كي توصي باللقاحات. حتى الآن، لم ينشر شركاء «سينوفاك» البرازيليون كامل البيانات «بطلبٍ من الشركة»، كذلك تحتفظ «سينوفارم»، الشركة الصينية الرائدة الأخرى في مجال تصنيع اللقاحات، بكامل نتائجها، ولم تنشر أي معطيات عن المرحلة الثالثة من تجاربها.

رغم هذا الغموض كله، تصطف الدول لطلب اللقاحات الصينية، فقد بدأت شركتا «سينوفارم» و»سينوفاك» تُسلّمان ملايين الجرعات شهرياً إلى الحكومات حول العالم، وجعلت تشيلي اللقاحات الصينية جزءاً محورياً من استراتيجية التلقيح الوطنية، فطلبت أكثر من عشرة ملايين جرعة من «سينوفاك»، وفي إندونيسيا، تلقى الرئيس جوكو ويدودو أول حقنة من لقاح «كورونافاك» على التلفزيون مباشرةً، لكن المنظمين في تلك الدول لا يحتاجون إلى تلقي أرقام غير متماسكة عن نسبة فاعلية اللقاح، بل يجب أن يعرفوا استجابات الأجسام المضادة للقاحات الصينية، ومدى اختلاف تلك الاستجابات بين الجماعات الديمغرافية، ومسار تغيّرها مع مرور الوقت، وردود الأفعال المعاكسة لدى الجماعات التي تلقّت اللقاح، وإلا لن يتمكنوا من اتخاذ قرارات صحية مدروسة حول رفض اللقاحات الصينية أو المصادقة عليها للجماعات الأكثر ضعفاً مثل المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية وكبار السن.

البيانات الخاصة تنسف ثقة الرأي العام

ليس مصادفة أن تتراجع ثقة الناس باللقاحات الصينية، فقد تطرقت التغطية الإعلامية في دول عدة إلى عدم تماسك بيانات «سينوفاك» للتشكيك بحملة التلقيح الصينية كلها، ويكشف استطلاع جديد أن 37% من سكان هونغ كونغ فقط مستعدون لتلقي أي نوع من اللقاحات الصينية، ويذكر استطلاع آخر أن سكان 13 بلداً من أصل 15 دولة خضعت للدراسة كانوا أقل ميلاً إلى تلقي اللقاح إذا كان صيني الصنع.

لا مفر من أن يُسبب انعدام الثقة المشاكل في مختلف دول العالم، لا الصين وحدها، وفي أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان، يجب أن يصبح 70 أو 80% من الناس محصّنين ضد الفيروس عبر التقاط العدوى طبيعياً أو تلقي اللقاح لكبح انتشار الوباء، فقد بدأت هذه النسبة ترتفع في حين يزداد احتمال أن يتسارع انتشار الفيروس ويتمكن من نقل العدوى مجدداً إلى المتعافين، فكلما تراجعت فاعلية اللقاح، يرتفع عدد السكان المحتاجين إلى اللقاح لبلوغ المناعة الجماعية المنشودة، ولهذا السبب، لا تستطيع الدول النامية التي تتكل على اللقاحات الصينية أن تسمح لنفسها بالتشكيك بفاعليتها، وما لم يحصل جميع المواطنين تقريباً على اللقاح، سيتابع الفيروس انتشاره وتطوره، وقد يصبح «كوفيد19» في هذه الحالة مرضاً مزمناً مثل الإنفلونزا، فيُسبب حالات وفاة جديدة واضطرابات اقتصادية سنوياً.

خيار مستحيل

في بداية نوفمبر توقعنا في صحيفة «فورين أفيرز» أن تسعى بكين إلى فرض هيمنتها على عملية توزيع اللقاحات للدول النامية وتحصد منافع استراتيجية نتيجةً لذلك، وإذا تابعت الدول الغنية تخزين اللقاحات الغربية، فستضطر الدول الفقيرة في نهاية المطاف لشراء البدائل الصينية.

بدأت مظاهر اللامساواة المتوقعة تزداد حدة اليوم، إذ تعمد الدول الغنية إلى تخزين جرعات من اللقاح كضمانة ضد السلالات الجديدة والخطيرة، وقد حاولت مفوّضة الصحة الأوروبية، ستيلا كيرياكيديس، حديثاً أن تمنع «أسترا زينيكا» من تصدير الجرعات من المصانع الأوروبية، حتى لو كانت هذه العمليات تلبّي طلبات مسبقة، فقالت: «نحن نرفض منطق تقديم اللقاح إلى من يطلبه أولاً. ستحرص أوروبا على تلقيح سكانها قبل الآخرين»، وقامت إدارة بايدن من جهتها بمبادرة بارزة عبر الانضمام إلى برنامج «كوفاكس» الذي صمّمته منظمة الصحة العالمية لجمع جرعات من اللقاحات وتأمينها لأفقر دول العالم، ويبدو أن القيادة الأميركية ستؤدي دوراً إيجابياً في هذا المجال وقد تؤثر على دول غنية أخرى وتُشجّعها على القيام بالمثل، لكن خطوة بايدن، في الوقت الراهن، تبقى رمزية لأن إدارته تُركّز على تأمين الجرعات للأميركيين، ولن تكتمل حملات التلقيح الشاملة في بعض الدول الفقيرة قبل خريف عام 2021، وسيضطر البعض للانتظار حتى عام 2022.

لهذا السبب، تتكل الدول الفقيرة اليوم على اللقاحات الصينية أكثر من أي وقت مضى، فلا يملك المسؤولون والمنظمون في أنحاء إفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا خيارات أخرى، لأن أي لقاح متوسط تقتصر نسبته على 50% قد ينقذ حياة الناس ويخفف الضغط عن المستشفيات ويبقى أفضل من عدم تلقي أي لقاح.

الطلب على اللقاحات لن يتلاشى

الصين ليست المُنتِجة غير الغربية الوحيدة التي تُصنّع لقاحات فاعلة ضد «كوفيد19»، فيبدو اللقاح الروسي فاعلاً جداً أيضاً وقد وقّعت روسيا اتفاقيات لتصدير مئات ملايين الجرعات هذه السنة، كذلك تطبّق الهند مبادرتها الدبلوماسية الخاصة، فتُصدّر جرعات من إنتاج «معهد مصل الهند»، شريك «أسترا زينيكا»، وفي فبراير وحده، كانت الهند تُخطط لتصدير مليونَي جرعة.

لكنّ الطلب على اللقاحات في الدول النامية سيتجاوز حجم العرض بأشواط في المستقبل المنظور، لذا لن تواجه الصين أي مشكلة في إيجاد العملاء، وتتجه معظم صادرات اللقاح الهندي إلى الدول المجاورة، مثل بنغلادش وميانمار ونيبال، والجزر الواقعة في المحيط الهندي، مثل موريشيوس والسيشل وسريلانكا، وهذه الخطة هي جزء من استراتيجية «الجوار أولاً» التي وضعها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لإبقاء الجوار الهندي بمعزل عن النفوذ الصيني، وقد عقدت روسيا من جهتها اتفاقيات لتصدير لقاحها إلى عدد أكبر من الدول، لكنها تواجه عقبات كثيرة على مستوى التصنيع، مما قد يمنعها من تحقيق أهدافها المرتبطة بعملية الإنتاج. وبما أن موسكو تعجز عن مواكبة حجم الطلب، طلبت البرازيل ومصر وإندونيسيا وتركيا ودول أخرى نحو 380 مليون جرعة من شركة «سينوفاك» وحدها.

بما أن هذا الكم من الدول يتكل على اللقاحات الصينية، ستكون الشفافية عاملاً أساسياً في جميع الاتفاقيات، وإذا كانت اللقاحات التي تنتجها «سينوفاك» أقل فاعلية من الابتكارات الغربية، كما توحي المعطيات الراهنة، يجب أن يعوّض صانعو اللقاحات الصينية عن ضعف ثقة الرأي العام بالصين، ويمكن تسهيل بناء الثقة عبر نشر كامل البيانات العيادية وتكرار التجارب الصينية في الخارج. كذلك، يُفترض أن يمارس الصحافيون والمسؤولون العامون الضغوط اللازمة للإفصاح عن هذه المعلومات، لكن من دون أن ينشروا الشكوك بلا مبرر أو يروّجوا علناً لفشل اللقاحات الصينية.

من الطبيعي ألا تعطي جميع اللقاحات الفاعلية نفسها، لكنّ العالم بحاجة إلى اللقاحات الصينية في مطلق الأحوال، وإذا كانت اللقاحات التي طوّرتها «سينوفارم» و»سينوفاك» وشركات صينية أخرى آمنة وفاعلة نسبياً، فذلك يعني أنها تستطيع إنقاذ حياة الناس في أفقر دول العالم وتخفيض احتمال ظهور متغيرات جديدة وخطيرة في الدول النامية، وسيكون نجاحها كفيلاً بتحسين الصحة العامة وصورة الصين عموماً، لكنّ فشلها سيؤدي إلى إطالة مدة الوباء وتدهور سمعة الصين في هذا الملف كله، ولهذه الأسباب وسواها، يجب أن يتصرف صانعو اللقاحات الصينية بكل شفافية وينشروا بياناتهم، حتى لو لم تكن مثالية.

إيك فريمان- جاستن ستيبينغ- فورين أفيرز