يتحضر العراق لاستقبال البابا فرنسيس، ستكون الصورة بالغة الدلالة والأهمية، لبنان أحد أكبر المتحسرين والخاسرين، وهو الذي كان يفترض أن يكون وجهة أولى لمثل هذه الزيارات، ومنه ينطلق البابا في زياراته، مثلما حصل عندما زار البابا الراحل يوحنا بولس الثاني لبنان ومنه زار سوري، إنها الزيارة الثانية لبابا الفاتيكان للشرق الأوسط، ولا يكون لبنان حاضرا على جدول زياراته. الرسالة بالغة المعالم حول سوء الوضع اللبناني، خاصة أن العراق يحتضن زيارات عربية متعددة، يعود إلى آفاقه العربية بعد غربة طويلة، يعمل رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على إعادة تثبيت قاعدة العلاقات العربية المشتركة، بتحسين العلاقات مع دول الخليج وخصوصا السعودية، ومن خلال وضع أسس لتفاهم ثلاثي عراقي مصري أردني، يخرجه من السيطرة التامة للنفوذ الإيراني، كل هذه التطورات هي التي تجعل بلاد الرافدين قبلة دولية للسياسيين ورجال الدين.

المحطة الأساسية في زيارة البابا هي اللقاء مع المرجع الشيعي في النجف الأشرف، وفي ذلك رسالة أيضاً، ليست فقط حول الحفاظ على التعايش المشترك الإسلامي المسيحي، إنما موقف بالغ الدلالة يتلاقى عليه الفاتيكان مع جهات دولية أخرى حول رفعة مواقف المرجع الذي كان داعماً لتظاهرات العراقيين الرافضين للهيمنة الخارجية، وطالبوا بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية حقيقية. في هذا الوقت، سيكون لبنان في عداد المتفرجين والمتحسرين، فهو لم يعد يستقطب اهتمام العالم.

Ad

قيل سابقاً في لبنان، ومن قبل أحد أكثر الزعماء المسيحيين حنكة وذكاء وكاريزماتياً، الرئيس الراحل كميل شمعون، إنه إذا أراد المرء في لبنان أن يقرأ التحولات والتطورات في المنطقة، فما عليه إلا النظر إلى العراق. تلك قناعة كانت راسخة لدى شمعون دفعته إلى الانضمام في الخمسينيات إلى حلف بغداد، وكان من المؤمنين جداً بانعكاس الوضع في العراق على لبنان، تلك قناعة كانت راسخة أيضا لدى قوى مسيحية في الثمانينيات، وتحديدا القوات اللبنانية، وقائد الجيش حينذاك ميشال عون.

تجدد الربط بين الملفين اللبناني والعراقي في محطات كثيرة، سقطا معا في دوامة الفوضى والسطوة الإيرانية، ومعا أيضا شهدا اندلاع أوسع موجة احتجاجات في أكتوبر 2019، ما يؤكد نظرية التلازم، لكن العراق تفوق على لبنان في مواكبة التطورات والأحداث، نجح مصطفى الكاظمي في إعادة العراق إلى ساحة الاهتمام العربي والدولي، منتهجا سياسة متوازنة، عرف كيف يستفيد من كل الظروف المحيطة ليركز انطلاقته على رأس الحكومة، أما لبنان فلا يزال متأخرا، لكنه يشهد تحركا سياسيا وشعبيا وكنسيا أيضا لجلب اهتمام الفاتيكان، ومن خلاله استعادة الاهتمام الدولي بلبنان.

قبل تحديد موعد زيارة البابا للعراق، زار البطريرك الماروني لأنطاكيا وسائر المشرق بشارة الراعي، الحاضرة الفاتيكانية، وعقد لقاءات مع المسؤولين هناك وعلى رأسهم البابا فرنسيس، وقدم الراعي دراسات متعددة حول الوضع في لبنان، طالبا المساعدة للحفاظ على هذا الكيان، الذي وصفه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بوطن الرسالة.

وتوالت الزيارات واللقاءات والرسائل التي تشرح حقيقة الوضع المتدهور في لبنان، كما وجه الراعي دعوة للبابا لزيارة البلد الصغير، الذي يعاني أسوأ أزمة اقتصادية اجتماعية مالية، قبل أيام دعا البابا إلى حماية الكيان اللبناني، كنموذج فريد في منطقة الشرق الأوسط. في موازاة ذلك، تشهد الساحة اللبنانية حركة سياسية وشعبية واسعة مؤيدة لبكركي، وهي الكنيسة المارونية التي تدعو للحفاظ على الوحدة اللبنانية وحماية الدستور، وتسعى لعقد مؤتمر دولي يحفظ لبنان الذي نشأ عام 1920.

وتتخوف الكنيسة المارونية من زوال لبنان الكبير، الذي تم تجديد الإجماع الوطني والعربي والدولي حوله في وثيقة الوفاق الوطني في اتفاق الطائف بالسعودية عام 1989، والحفاظ على صيغة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بدلا من الذهاب إلى صيغة جديدة يطلق عليها «المثالثة»، أي تقاسم المناصب في الدولة بين ثلاث قوى على أساس مذهبي، بين السنة والشيعة والمسيحيين. وهذه صيغة تمثل مشروعا سياسيا كبيرا لحزب الله تحاول الكنيسة التصدي له، لعدم خسارة الامتيازات اللبنانية التي نجح لبنان في اكتسابها، انطلاقا من نموذجه، وعززها بناء على علاقاته العربية وتحديدا الخليجية، بالإضافة إلى علاقاته مع الغرب.

يحاول البطريرك الماروني، إلى جانب قوى سياسية متعددة من مختلف الطوائف، وخصوصا مع وليد جنبلاط، نبيه بري، تيار المستقبل وسعد الحريري، وشخصيات مسيحية وإسلامية أخرى، إعادة إحياء الاهتمام العربي والدولي بلبنان، والتقدم خطوات إلى الأمام على غرار الخطوات التي أحرزها مصطفى الكاظمي في العراق، ونجح من خلالها في استقطاب متجدد للمجتمعين العربي والدولي.

تعرف هذه الشخصيات أن المهمة صعبة وشاقة، وأن الطريق طويل، لكن الحركة السياسية باتجاه الكنيسة المارونية والشعبية، ستكون عنصراً أساسياً من عناصر استعادة التوازن السياسي، بعد اختلال الميزان لمصلحة حزب الله وحلفائه ومن خلفهما إيران. هذه الحركة تأتي بعد قناعة لدى البطريرك الماروني بأن المجتمع الدولي لن يبدي اهتماماً بلبنان ما لم يهتم اللبنانيون بأنفسهم. وذلك يبدأ بإعادة تعزيز التفاهم المسلم المسيحي، وتجديد الاتفاق على ثوابت التوازن، والعودة إلى الحضن العربي، بدلا من الانخراط في صراع الأحلاف، وبدلا من التوجه إلى إيران أو إلى الشرق، وفق ما يناقض الصيغة اللبنانية بأساس تكوينها، الهدف واضح لكن الطريق صعب وطويل.

بيروت - منير الربيع