نقل المآسي الخاصة التي لم يتسن للجميع معرفتها والاطلاع عليها، غالباً ما يثير الجمهور عند عرضها عليهم، مما يسهم في حثهم على التفاعل وإبداء محاولات لتغيير الواقع المتسبب في استمرار تلك المآسي بالنسبة للفتيات اللاتي يعانين نتيجتها، لذلك فإن وراء كل قضية ردة فعل.

وما أحدثته ردة الفعل على خبر وفاة إحدى الفتيات بسبب التحرش هو الوقت المناسب لمعالجة قضية التحرش، بعدما خيمت تفاصيلها وأحداثها على أذهان الجمهور، وبدأوا يتابعونها عن قرب، ويتفاعلون مع العلاجات التي يطرحها المقربون من القرار، فيحثونهم على الإسراع بإنهاء تلك المأساة. ولذلك فالقول بأن أخطر علاج لأي قضية هو التعامل معها كردة فعل، إنما هو قول لا يتفق دائماً مع كل قضية، فردة الفعل في كثير من القضايا أسهمت في علاجها، بل كانت عنصراً فعالاً في علاجها على نحو سريع مادام الجميع اتفقوا على أنها تستحق النقاش والالتفات والمواجهة، ومادامت الأطراف المعنية بدراسة ذلك الملف تتعامل بموضوعية، وتحرص على إيجاد الحلول، وإشراك المتخصصين فيها، بعد الاطلاع على القوانين المقارنة، وهو الأمر الذي سيسهم في علاج أي قضية.

Ad

إن بروز قضية التحرش الجنسي على السطح مجددا امر يستدعي التفاعل مع جوانبها، والاستماع إلى معاناة المتعرضين لها، خاصة إذا كنا مطلعين في وقت سابق على وجود هذه المشكلة التي بدأت تتزايد، وحان الوقت لمواجهتها بعدد من الأبعاد الأمنية والقانونية والتعليمية والاجتماعية، لاسيما اذا ما ثبت عمليا إخفاق تلك الجهود في التصدي لهذه القضية.

وقبل استعراض الحلول المقترحة لمواجهة هذه القضية، تتعين الإشارة الى مسألة أولية، وهي أن التحرش الجنسي يمثل احدى صور التعدي على حرية الانسان في تنقله او تسوقه او تنزهه او بمظهره الخارجي، وعليه فإن اعتراض شخص ما ماديا للآخر حال تنقله أو تسوقه أو تنزهه بغرض السخرية أو الحط من الكرامة او الدعوة لإقامة علاقة بهدف التعارف أو إقامــــة علاقــــة عاطفية جبرا، هو لا شك تعد على حرية الانسان في التنقل او التسوق او التنزه، بما يستلزم من المشرع معاقبة هذا الفعل لكونه يستهدف حريات الآخرين التي كفلها الدستور وأناط بالقانون حمايتها، وحرص على معاقبة كل من يحاول النيل منها.

الأفعال

وليس التعدي وحده الذي يستلزم من المشرع التحرك لمناهضة حريات الاخرين بل معاقبة المعتدي ايضا على الافعال المادية الصادرة منه، والمتضمنة عند اعتراض حريات الآخر، السخرية قولا او فعلا والحط من كرامته، مستغلا ضعف الضحية أو حياءه أو عدم قدرته على الرد، أو عند تلفظه بعبارات تنطوي على إيحاءات جنسية، او ما يخدش الحياء او ينافي الآداب العامة.

وليس التعدي على الحريات وإصدار عبارات السخرية والايحاء الجنسي او ما يخدش الحياء هو فقط ما ينتهي في تلك الحالات بل احيانا يستطيل الى الاعتداء بالضرب او الدفع او اتلاف ممتلكات المجني عليه، سواء كان ذكرا او انثى، كالاستيلاء على حقيبة الفتاة او هاتفها، او صدم مركبتها، ومحاولة إيقافها، وهي وقائع تستلزم ايضا من المشرع مواجهتها قانونيا وتجريمها.

ولذلك فإن التجريم المنادى به لتلك القضية، يتضمن ثلاث صور، هي الاعتراض على حريات الآخرين بغية اجبارهم على التعرف او اقامة علاقة عاطفية أو السخرية منهم، قولا وفعلا، واستغلال ضعفهم وحيائهم، او عدم قدرتهم على الرد، والثانية هي التلفظ بالقول او بالاشارة بأفعال تنطوي على إيحاءات جنسية او ما يخدش الحياء العام او ما ينافي الآداب العامة.

والثالثة هي معاقبة الأفعال التي تعقب ذلك التحرش، وتستهدف الإضرار بجسد المجني عليه أو ممتلكاته، وتلك الصور لم تتم تغطيتها من قبل المشرع على هذا النحو، وتحدث فراغا تشريعيا يتسبب في النيل من حقوق وحريات الآخرين.

زي الضحية

وبعد ايراد الدواعي والحاجة التشريعية لإصدار قانون عبر اضافة مواد الى قانون الجزاء الحالي، لوجود فراغ تشريعي، تتعين الإشارة الى ان الباعث احيانا وراء التحرش هو الزي او المظهر الخارجي للضحية، سواء كانت ذكرا او أنثى، وما قد يتسبب من جلب الإثارة للمتحرش.

وتلك المسألة إن كانت لها وجاهتها من الناحية الواقعية، الا انها بالتأكيد لا تبرر فعل التحرش، ويجب الفصل بينها وبين واقعة التحرش، وعليه فإنه يتعين التعامل مع المظهر، والزي الخارجي للأشخاص على انه لصيق بالحرية الشخصية، ولهم الحق وحدهم في التعبير عن المظاهر الخارجية لهم، خاصة ان الدستور أكد في المادتين 30 و36 منه أن الحرية الشخصية وحرية التعبير مكفولتان في حدود القانون، ومن ثم فإن الخصوصية والحياة الخاصة من حق الاشخاص ان يمارسوهما.

حرية شخصية

الا انه حتى لا يساء فهم الحرية الشخصية فإنه يحق للامن، اذا ما ثبت خروج الاشخاص عن الاداب العامة او النظام العام، ضبط هذا الامر، وتوجيههم بشأن الفعل المخالف منهم.

ومن ثم فإنه اذا ما ثبت ارتداء الضحية ملابس غير لائقة وخادشة للحياء العام، وإظهار أجزاء من اماكن العفة بما ينافي الآداب العامة، فإنه للأمن إحالة الضحية بجريمة الفعل الفاضح في مكان عام، بينما إذا لم يثبت ان الزي او المظهر الخارجي يخالف الحياء العام او الآداب العامة، لا يجوز ايقاف الاشخاص لمجرد مظهرهم او زيهم الخارجي غير المألوف للبعض او للمتحرش نفسه.

ولذلك يتعين التفرقة بين حق الأشخاص في ممارسة حرياتهم الشخصية بصورها المتعددة، وبين حق الدولة في ضبط بعضها، متى ثبت خروجها عن المألوف الطبيعي، بما يدخلها في خانة جريمة خدش الحياء العام او الاداب العامة.

وبعد بيان تلك المسائل المهمة تتعين الآن الاشارة الى الحلول المقترحة لمواجهة ظاهرة التحرش، وفق 4 معالجات قانونية وأمنية وتعليمية واجتماعية.

أولاً: المعالجة القانونية لقضية التحرش الجنسي

إزاء الخلل التشريعي في قانون الجزاء، يتعين على المشرع، كما أسلفنا، إصدار قانون يعاقب على صور التحرش التي تمت الاشارة اليها والاسراع في اقرارها.

ورغم مطالبة البعض بعدم اصدار تشريع يعاقب على جريمة التحرش لكون النصوص الواردة بقانون الجزاء الحالية كافية لمعالجة الامر، الا انه بعد الرجوع الى احكام القانون يتبين خلوه من تلك الأحكام، وأن المعالجات الواردة فيه تخاطب افعالا، كالتحريض على الفسق والفجور وهتك العرض وخدش الحياء العام، وجميعها افعال لا تتفق تماما مع الصور المشار اليها بشأن التحرش الجنسي.

مقترحات

وعليه فإنه يتعين على المشرع الكويتي النظر الى المقترحات المقدمة مؤخرا من بعض اعضاء مجلس الأمة لتجريم ذلك التحرش، مع مراعاة ثلاثة ابعاد، هي:

1- أن يتم تحديد الأفعال المحظورة، على سبيل الحصر، وذلك حتى لا تتداخل المفاهيم المطلوب النص عليها مع بعض الافعال المنظمة حاليا، علاوة على ان وضوح النص سيساهم في ضبط الجريمة، وتمكين المحكمة من ادانة المتهم او تبرئته. وحتى لا يحدث أي ازدواج تشريعي من شأنه أن يحدث أي تداخلات في الجريمة أو مفهومها.

2- ان يتم وضع النص على العقوبة المناسبة لتلك الافعال، والتي يراد منها أمن المجتمع ككل، وذلك لأنه كلما كانت العقوبة مناسبة ورادعة للفعل كانت رادعة لمن تسول له نفسه الاقدام على تلك الافعال، كذلك يتعين في هذه المسألة أن يترك للقاضي تقدير العقوبة، وأن تضاعف عند العودة اليها، بينما العنصر الثالث والمهم عند وضع النص، هو ان يحقق النص فكرة الردع العام، بمعنى أن تترك للمحكمة مساحة عند إدانة المتهم بأن يقوم ببعض الاعمال المجتمعية أو أن يتم إلزامه بارتداء سوار مثلا عند تطبيق العقوبة، أو أن يتم نشر ملخص للحكم في صحيفتين على نفقته، وذلك لإظهار البعد المهم الذي ابتغاه المشرع في تحقيق الردع العام، وهم مسلك يتعين على المشرع الكويتي النظر اليه في تقرير العقوبة بقانون الجزاء والقوانين المكملة له بالنص على تحقيق فكرة الردع العام حتى يكون لتنفيذ العقوبة صوتاً وأثراً مجتمعياً حتى يتجنب الكافة الوقوع بها.

ثانياً: المعالجة الأمنية للتحرش

أعطى قانون الجزاء الكويتي، وقبله الدستور، لوزارة الداخلية حفظ الامن العام على نحو مستقل، او ارتباطاً بفكرة النظام العام، وعليه فإنه بعيدا عن الأفكار المطالبة بالتشريعات، وإن كانت ذات اهمية، الا ان بسط المنظومة الأمنية بما يسهم في ضبط الامن العام، كفيل بالقضاء على كل انواع الجرائم، ومن بينها التحرش بكل الوسائل المتعددة لرجال الشرطة.

وعليه فإن نشر مجموعة من رجال الأمن أو استعادة دور شرطة في الاسواق لحفظ الامن وضبط المخالفين وإحالتهم إلى القضاء هو المسلك الطبيعي الذي يقوم به رجال الأمن، وعليه فإن فكرة الانتشار الأمني احدى اهم الوسائل اللازمة لذلك، ولو كانوا في زي مدني، كما تقوم بذلك احدى الدول الخليجية التي تزرع العناصر الأمنية لضبط المخالفين والمستهترين وإحالتهم الى النيابة مباشرة.

كما أن المعالجة الأمنية وفق ما هو مسموح في الشوارع، يتم بالاستعانة بالكاميرات الموضوعة فيها، خصوصاً الشوارع التي يعتاد فيها هذا النوع من جرائم التحرش، بحسب ما تسفر عنه التقارير الأمنية وبإمكان ضبط المخالفين وإحالتهم الى أحد مخافر الشرطة.

وبشأن التفاعل مع البلاغات التي تقدم من قبل المتضررين من وقائع التحرش فإنه بالإمكان الاستفادة من خدمة عمليات وزارة الداخلية لتلقي هذه البلاغات، بصورة أسهل من الحالية، فضلاً عن إلزام المبلغ بتقديم الحد الأدنى من البيانات الخاصة بالبلاغ، إلى جانب توجيه المبلغ بما يقوم به تجاه الحدث الذي يتعرض له.

أما عن المطالبات بإنشاء موقع إلكتروني أو «ابليكش» لتلقي البلاغات او حتى ما ورد من قبل بعض النواب باقتراحاتهم، فقد يؤخذ عليها انها ستساهم في ارتفاع البلاغات الكيدية، والأولى ان تكون البلاغات رسمية بصورة اتصال الى عمليات وزارة الداخلية، أو شكاوى مكتوبة من قبل الضحية إلى الادارة العامة للتحقيقات عبر المخافر أو النيابة العامة، اذا ما عهد التشريع الجديد اليها بهذا الاختصاص.

ثالثا: المعالجة التعليمية والاجتماعية

لا شك ان التحرش قضية أخلاقية من الدرجة الأولى، وتتطلب التنبيه الى خطورتها، سواء من الاسرة او من المحيط الاجتماعي لها، فضلاً عن عن الاشارة الى خطورتها والتنبيه الى العواقب التي قد يواجهها مرتكب هذا الفعل في احدى المراحل التعليمية، وتحديداً الثانوية العامة، وأن يشار بتلك المناهج أو اقرار منهج للثقافة القانونية المطروح على طاولة وزارة التربية منذ سنوات، ولم يتم إقراره حتى الان، الى مجموعة من الأفعال التي يتعين على الطالب الابتعاد عنها لخطورتها، وما تحدثه من أضرار بالغة عليه وعلى الأسرة، فضلاً عن تسليط وزارة الاعلام الضوء على خطورة ارتكاب الجرائم من قبل الأحداث والمراهقين وما قد تسببه من أضرار على المجتمع ومستقبله وأسرته.

حسين العبدالله