تناولت في مقالي الأسبوع الماضي «فلسفة العمل الإنساني بين الدولة والمجتمع والفرد» واخترتها عنوانا للمقال، وقلت فيه إنها منظومة متكاملة للعمل الإنساني، يتجلى فيها دور الدولة المباشر في هذا العمل، فضلا عن دورها في تعضيد دور الفرد ودور منظمات المجتمع المدني، حيث ترتبط الأدوار الثلاثة، برباط وثيق وتناغم كامل، وقد اشتقت هذه الأدوار ملامحها الإنسانية ومقوماتها من الفلسفة الدستورية التي وردت في ديباجة الدستور ونصوصه المتفرقة ومذكرته التفسيرية.

Ad

فلسفة الحكم في الإسلام

لم يكن الدستور في هذا السياق مستحدثا لفلسفة جديدة في نظام الحكم أو مبتدعا لها، بل كان، كما جاء في مذكرته التفسيرية التي استهلت هذا التفسير، بتصوير عام لنظام الحكم، متابعا لركب تراثنا الإسلامي في بناء المجتمع وإرساء قواعد الحكم، وما امتاز به الناس هذا البلد عبر القرون بروح الأسرة تربط بينهم كافة حكاما ومحكومين.

فعبدالرحمن بن عوف أحد المبشرين العشرة بالجنة يدفع بكل ثروته لإعتاق الرقيق وسد حاجة كل محتاج، ولم تكن المسارعة في البذل والعطاء في سبيل الخير من شأن المكثرين وحدهم، بل كان ذلك أيضا من المقلين منهم، حتى نزل فيهم قوله تعالى: «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، وسيدنا عثمان، رضي الله عنه، يقوم بتجهيز جيش العسرة، وهو التزام على بيت المال (الدولة).

وتتابع المذكرة التفسيرية للدستور في تصويرها لنظام الحكم بأنه استشراق لمكانة من كرمهم المولى عز وجل في كتابه العزيز بقوله: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ»، وتأسيا بسنّة رسوله، صلى الله عليه وسلم، في المشورة والعدل، فلقد امتاز الناس في هذا البلد عبر القرون بروح الأسرة تربط بينهم كافة حكاما ومحكومين، يقول المولى عز وجل «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»، وفي قوله تعالى «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وقال أيضا «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وأكد أن «الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» ويجسد الرسول صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام التعاون والتراحم والتكافل والتضامن الاجتماعي في حديث من أحاديثه الشريفة فيقول فيه «إن قوما ركبوا سفينة فاقتسموا فصار لكل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأسه، فقالوا ماذا تصنع؟ قال هذا مكاني أصنع به ما أشاء، فإن أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا».

مسيرة الخير في إفريقيا

وقد عبر عن ذلك د. عبدالرحمن السميط بأنه أحب إفريقيا القارة السمراء حبا في الله. مقدمة كتابه «رحلة خير في إفريقيا» ولا يفوته أن يذكر في كتابه من تجربته الشخصية، في إخوانه الذين عمل معهم في لجنة مسلمي إفريقيا، الذين أنكروا ذواتهم وتحملوا المشاق الكثيرة احتسابا، وأنه تعلم منهم الكثير من التضحية والإيثار والصير على أذى الآخرين، وهم الذين جاعوا في مجاهل إفريقيا، وهم يطعمون الآخرين، وناموا على التراب والطين، للوصول إلى إخوانهم المحتاجين، يتنقلون من قرية إلى أخرى، معرضين أنفسهم لإطلاق النار عليهم، لسد رمق الجياع من أبناء الصومال، وكان أقصى ما يتمنونه في آخر رحلاتهم الشاقة النوم على حصير مسجد، وهم من أبناء الخليج المرفهين.

ويضيف الراحل د. عبدالرحمن السميط، أن قارة إفريقيا هي القارة الأولى التي دخلها الإسلام، في هجرة الحبشة الأولى، وأسلم فيها ملك الحبشة، قبل هجرة المدينة المنورة.

المسلمون والكويت والعطاء الإنساني

وقد سبق المسلمون بقرون أثرياء الغرب بقرون في العطاء الإنساني، كما سبقتهم الكويت بعقود، في سيرة الخير التي تبنتها منذ نيل استقلالها حين أنشأت صندوق التنمية الاقتصادية العربية، وظلت تواصل مسيرتها في هذا العطاء للشعوب كافة، حتى استحقت دولة الكويت، أن تلقب بإمارة الإنسانية، وأن يلقب رئيسها الأمير الراحل بأمير الإنسانية، في الوقت الذي لم تبدأ ظاهرة التبرعات الضخمة للأعمال الخيرية تنتشر بين رجال الأعمال الأميركيين إلا منذ عقدين من الزمان، عندما بلغت حصيلة تبرعات هؤلاء الرجال للأعمال الخيرية عبر العالم سنة 2004، مبلغ 71 مليار دولار، في حين لم تجاوز المساعدات الحكومية الأميركية المماثلة 20 ملياراً في العام ذاته.

وقد تبرع وران بوفيت صاحب مجموعة «بيركشاير هاثاوي» ثاني أغنى رجال في العالم بـ99% من ثروته البالغ قدرها 47 مليار دولار للأعمال الخيرية، وكان بيل غيتس مؤسس شركة «مايكروسوفت»، أغنى رجل في العالم، سباقاً الى العمل الخيري فقد تبرع عام 2006 بما مجموعه 31 مليار دولار للأعمال الخيرية، كما تبرع بـ99% من ثروته.

ويشرف الاثنان على أضخم حملة تبرعات في تاريخ البشرية تضم 40 مليارديرا اتفقوا جميعاً على تعهد بالعطاء، يتبرعون بموجبه بنصف ثرواتهم للأعمال الخيرية، ومن بين هذه المجموعة التي وافقت على هذا التعهد تيدر تيرنر مؤسس شبكة سي إن إن الإخبارية الأميركية، ومايكل بلومبيرغ عمدة نيويورك وغوردن مور صاحب شركة «إنتل».

فلم تكن الحقبة الترامبية المفزعة، التي ابتزت الحكام وسلبتهم أموال شعوبهم ونشرت الكراهية في العالم كله سوى سحابة صيف لم تلبث أن انقشعت.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

المستشار شفيق إمام