شعرت بعلاقة مودة مع قانون التحرش الجديد، ليس لأنه جيد و"ما يخرش المية" لا سمح الله، بل لعلاقته بسلق البيض عشقي الأول والأخير، والناس كما يقال في العشق مذاهب، وعشق البيض المسلوق يعرفه كل متزوج مخضرم غاب عنه أهله لسفر أو زيارة وتركوه وحيداً يكابد الجوع مع تغاريد عصافير بطنه المتزاحمة حول هاشتاق بوح المعدة، وفي حال فكر بالولوج لثنايا المطبخ الموحش قاصداً سد رمق جوعه المتوحش، وبمجرد دخوله هناك تسيل العبرات خصوصاً عندما تستهزئ به مكونات الطبخ كالبهارات والأرز والإدام، وكأنها تقول له: فغض الطرف إنك من شعير فلا قمحاً بلغت ولا دجاجا.

ويزيد صرير كرامته عندما تتناهى لسمعه ضحكات الطماطم التي تراه يعبث باحثا عن الصلصات فتهمس بأذن الجرجير: بعد ما شاب ودوه… الكاتشاب! وبعد اللتّ والعكّ يبقى البيض المسلوق وحيداً ضمن الخيارات المتاحة، فهو الأكلة الوحيدة والمتوافرة التي تحفظ كرامة طباخ الغفلة، ومن هنا كانت بداية الحب له، وعشق فزعته السهلة الممتنعة التي لا أنساها له ما حييت.

Ad

ولأني خبير في اشتراطات نظرية البيض المسلوق أقولها وبكل ثقة إن قانون النواب حول التحرش تنطبق عليه كل متطلبات الجودة لسلق البيض، فهو لم يستغرق وقتا طويلا، وتمت صياغته قبل أن يرتد لنا طرف رتويتات تقرير التحرش، وأيضا لم يحتج لبهارات قانونية متنوعة وخضراوات موائمة تشريعية، وإدام دستوري فخم تضمها عادة الأكلات البرلمانية، مثل تعريف التحرش كمثال وتناسب الجرم مع العقوبة مثال آخر، ففي المادة الأولى، حيث يوجد التعريف، تم الزج بمصطلح التحرش وحيداً مطاطيا مبهما بدون أن تعينه إضافة ما تسنده كالتحرش الجنسي مثلاً، وهو هنا بيت القصيد طبعاً، وبالتأكيد هم يقصدون هذا ولكن المصطلحات القانونية لا تحتاج لحسن النوايا فقط، ونظام العارف لا يعرف، ولابد من وضعها على ميزان "وضح النقا" لكي لا تصبح مستقبلا ثغرة تمر منها قوافل التأويلات والتفسيرات، ناهيك عن أن لغة الدولة الرسمية كما هو معروف هي اللغة العربية كما جاء بالدستور والتحرش لغويا لا يختص فقط بالمغازل أو علاقة الجنسين في المولات والأسواق، بل قد يقصد به الاستفزاز والإغاظة، وقد يكون التحرش ببن دول ودول وبين رجل ورجل، وبين قوم وقوم، وحتى تحريش البهائم كما جاء بالأثر الشريف يندرج تحت المفهوم نفسه.

أما ما جاء في بقية المادة خصوصاً ما بين (أو) التخيير بين الأشياء فزاد طين الإبهام بلة! حيث وصمت الإشارة فقط بالجنسية وترك القول والفعل يسرحان ويمرحان بدون تحديد، والشرط الثاني المتحقق في قانون النواب المسلوق هو راحة البال، وهو شرط توفره تقنيات سلق البيض دوما، كونها تغنيك عن الطبخ والنفخ وخلافه، والقانون التحرشي كذلك وافق الشرط كونه ريح باله بورقتين ورمى الثقل كله على ظهر مؤسسة القضاء ورجال القانون الذين يحتاجون وقتاً طويلاً لتحديد ملامح الحق والباطل في أحكام ممتدة تحاول إزالة الإبهام الاصطلاحي في التشريع المقدم، كما حدث في بعض ثغرات قوانين أخرى سابقة، احتاجت لأحكام بالدرجات الثلاث، وما زالت لموازنتها مع الحقوق الدستورية والقوانين القديمة الأخرى.

وكل ما سبق طبعا هو صداع قانوني مستمر ناهيك عن استغلال البعض لتشريعات ضبابية كهذه للاستفادة المادية، وبالحديث عن الصداع لابد أن نذكر البنادول طبعاً، ونقول إن هذا القانون أيضا مجرد بنادول يعالج الأعراض لا المرض ذاته، وكثرة تناول البنادول كما يقول الأطباء تمرض الكبد، كذلك بنادول المصطلحات المبهمة وتشريعات ردة الفعل تمرض كبد الحقيقة وتتلفه، والحقيقة أن صداع التحرش هو رأس جبل الجليد فقط، وباقي الجبل يقبع تحت ماء تجاهل حقوق الشباب من الجنسين وإهمال توفير أماكن مناسبة لهم ليقضوا فيها وقت فراغهم، ويطفئوا بها جمرة صباهم المشتعلة، هؤلاء الشباب دفعوا دفعا للمولات والأسواق مكرهين لا متحرشين، ولو توافرت لهم أماكن سياحية أو ثقافية أخرى لتحرشوا بفوائدها وتنميتها وغازلوها كما يجب ولأصبحوا لها قيساً كما كانت لهم ليلاهم، وكذلك هؤلاء الشباب وقعوا تحت إغواء وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية التي قدمت لهم نماذج وقدوات لمعتها في قنواتها وبرامجها ومسلسلاتها، وحجزت لها مكانا بالصف الأول، في حين مكانها الصحيح ليس الصف الأخير فقط، بل خارج قاعة القدوات ولمسافة لا تقل عن ١٠٠ كيلومتر.

بالأخير كل ما سبق لا يفسد عندي للقانون الجديد قضية، ليس حبا بمصطلحاته المبهمة، بل كرها لتاريخي القديم مع المطبخ وأكلاته المعقدة، وعشقاً بقلبي لا ينتهي لسلق البيض أكلاً وتشريعا.

فالح بن حجري