في بداية انتشار الوباء، حين راح فيروس "كورونا" يخترق حدود الدول، سارعت البلدان إلى فرض ضوابط على رحلات السفر وتدابير وقائية تخالف توصيات منظمة الصحة العالمية. وبدل تكثيف التعاون لاحتواء تفشي كورونا، احتدم الخلاف بين القوى الكبرى حول الطرف الذي يُفترض أن يتحمل مسؤولية ما حصل. سرعان ما رزحت الأبحاث العلمية تحت وطأة المصالح الوطنية، وجاءت عمليات تطوير اللقاحات وتوزيعها لترسّخ مظاهر اللامساواة الصحية، مع أن الخبراء كانوا يأملون سابقاً في طرح حل عالمي لهذه الأزمة الدولية. أصبحت نتائج هذا التمييز في توزيع اللقاحات واضحة الآن: اعتباراً من 25 يناير، لم تصل أي دفعة من أصل 68.1 مليون جرعة لقاح موزّعة عالمياً إلى الدول ذات الدخل المنخفض أو المتوسط. في الأسبوع الماضي، علّق المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غبريسوس، على هذه الفجوة في توزيع اللقاحات قائلاً: "أصبح العالم على شفير فشل أخلاقي كارثي".

يبدو التعامل الدولي الفوضوي وغير المنسّق مع أزمة "كوفيد-19" مختلفاً بشدة عن الرد الدولي على جائحة إنفلونزا الخنازير في عام 2009، وتفشي الإيبولا في عام 2014. في 2009، تبادلت السلطات الصحية في الدول الكبرى، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة، التكنولوجيا والمعلومات اللازمة حول انتشار فيروس إنفلونزا الخنازير، وسرّعت تطوير اللقاح المناسب. ساهم هذا التعاون في محاربة ذلك الفيروس، ثم إنفلونزا الطيور الذي كان مخولاً للتحول إلى جائحة في عام 2013 لكن لم يحصل ذلك. وفي عام 2014، تجاوبت الدول الكبرى مع دعوات الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية لإرسال مساعدات صحية إلى غرب إفريقيا والمشاركة في محاربة فيروس الإيبولا. عقدت الصين والولايات المتحدة تحديداً شراكة وثيقة، فتعاونتا لبناء مراكز علاجية وتوفير إمدادات طبية مباشرة، ونجحت هذه الجهود في عكس مسار الإيبولا.

Ad

يلوم بعض المحللين منظمة الصحة العالمية على انهيار التعاون الصحي الدولي خلال أزمة "كوفيد- 19". لابد من الاعتراف أن هذه الهيئة الصحية ارتكبت سلسلة من الإخفاقات، فقد تأخّرت في إعلان "حالة طوارئ صحية عامة ذات اهتمام دولي"، وأثبتت عجزها عن فرض قواعد صحية دولية بطريقة متماسكة وفاعلة، ورضخت للصين أكثر من اللزوم في محاولة منها لإقناع بكين بالتعاون مع حملة مراقبة الأمراض ومعالجتها. لكنّ هذه المشاكل ليست جديدة. خلال جائحة إنفلونزا الطيور في عام 2009، طرحت منظمة الصحة العالمية مجموعة من التوجيهات المعتدلة لدول العالم، لكنها دعمت القرار الصيني بتطبيق استراتيجية احتواء صارمة، ووجّهت رسائل مختلطة ضمن حملة كانت تهدف على ما يبدو إلى استرضاء بكين. وأثناء تفشي الإيبولا في 2014، تأخرت منظمة الصحة العالمية أيضاً في اعتبار هذه الجائحة "حالة طوارئ صحية عامة ذات اهتمام دولي". لكن في هاتين الحالتين معاً، وجدت الدول طرقاً أخرى للتعاون في ما بينها ومنع حالات الطوارئ الصحية من التحول إلى أحداث كارثية.

لماذا اختلف الوضع هذه المرة؟ عند إلقاء نظرة مقرّبة على طريقة تعامل المجتمع الدولي مع فيروس "كوفيد- 19"، يبرز تطوران جديدان كانا كفيلَين بتفاقم تداعيات الجائحة وفشل التعامل معها: التسييس والوهم الأمني.

فيروس سياسي

خلال الأوبئة وموجات الأمراض السابقة، كان أصل المرض يُعتبر علمياً لا سياسياً. لم تعارض الصين مثلاً الفرضية القائلة إن وباء سارس بين عامي 2002 و2003 بدأ في "فوشان"، في مقاطعة "غوانغدونغ" الصينية، ولم يتكلم أي بلد آخر علناً عن ضرورة محاسبة الصين، لأنها السبب في تفشي الوباء. لكن بعد أشهر على اكتشاف "كوفيد- 19" في مدينة "ووهان" الصينية، في ديسمبر 2019، أصبحت المسألة المرتبطة بمصدر الفيروس مشحونة سياسياً.

اعتبر ترامب كورونا "فيروساً صينياً" ولام بكين على "إطلاق وباء عالمي". فردّت وسائل الإعلام الصينية الحكومية معتبرةً أن اكتشاف "كوفيد-19" في الصين للمرة الأولى لا يعني أن أصله صيني. كذلك، أعلنت بكين أن دولاً أخرى قد تكون مسؤولة عن إطلاق الفيروس. وصرّح وزير الشؤون الخارجية الصيني وانغ يي، في وقتٍ سابق من هذا الشهر: "تكشف أبحاث متزايدة أن الوباء اشتق على الأرجح من موجات وبائية منفصلة في أماكن متعددة من العالم".

لم يخضع أصل الفيروس وحده للتسييس، بل كان ردّ منظمة الصحة العالمية مسيّساً أيضاً. قبل انتشار وباء "كوفيد- 19"، نادراً ما كانت الولايات المتحدة تُشكك بتنامي نفوذ الصين في هذه المنظمة، حتى أن واشنطن انضمّت إلى بكين لدعم انتخاب الدكتورة مارغريت تشان، وهي صينية من هونغ كونغ، في منصب المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية في عام 2006. (دعمت الولايات المتحدة إعادة انتخابها أيضاً في عام 2012، حين كانت لاتزال على لائحة المرشحين). لكن عندما تشابكت الاستجابة الدولية تجاه فيروس كورونا مع السياسات المحلية، عمد ترامب، الذي كان يتوق إلى إيجاد كبش محرقة لتبرير سوء تعامله مع الوباء، إلى اتهام منظمة الصحة العالمية بالسماح للصين بالتلاعب بها رغم قلة الأدلة الدامغة على ذلك، ورداً على هذا الموقف، اتّهمت الحكومة الصينية الولايات المتحدة بمحاولة تشويه سمعة الصين للتهرب من مسؤولياتها الخاصة.

أدى التوتر بين الصين والولايات المتحدة إلى إضعاف قدرة منظمة الصحة العالمية على إجراء تحقيق مستقل وشفاف وعميق حول منشأ الفيروس (لم تطلق المنظمة بعد تحقيقاً مناسباً عن هذا الموضوع)، حتى أنه أعاق قدرتها على إقناع الدول بالتحرك بوتيرة سريعة ومتماسكة لوقف انتشار الفيروس. كذلك، كان التوتر الأميركي الصيني كفيلاً بشلّ مجلس الأمن الذي فشل في إصدار قرار قوي لدفع وكالات الأمم المتحدة إلى محاربة "كوفيد-19"، أو إنشاء هيئة فرعية لتنسيق الجهود الدولية بهدف احتواء الوباء.

في ظل احتدام الحرب الكلامية بين بكين وواشنطن، ترسخت النزعة القومية في البلدين. فزادت المشاعر العدائية ضد الصين في الولايات المتحدة وانتشرت المواقف المعادية للولايات المتحدة في الصين. اعتبر البلدان التعامل مع الوباء معركة بين النماذج السياسية المتنافسة. بنظر بكين، أثبتت قدرة الصين على احتواء الوباء سريعاً مقابل استفحاله في الولايات المتحدة فشل الديمقراطية الليبرالية وتفوّق النظام الاستبدادي حيث يحتكر الحزب الشيوعي الصيني السلطة السياسية. في المقابل، تعتبر واشنطن نشوء الوباء إثباتاً على فشل الحزب الشيوعي الصيني في تقديم أداء إيجابي يصبّ في مصلحة الشعب الصيني والعالم. يجازف تعهد بايدن بتنظيم قمة للدول الديمقراطية لمناقشة مخاطر "كوفيد-19" بترسيخ هذا الخطاب المثير للانقسام، ما يُمهّد لتجزئة العالم بين معسكرَين سياسيَين يواجهان تحدياً عالمياً مشتركاً.

الوهم الأمني

كان ميل دول العالم إلى تصوير الأزمة كأنها جزء من مسائل الأمن القومي كارثياً بقدر تسييس الوباء. على عكس معظم الأوبئة السابقة، اعتبرت الدول الفيروس تهديداً وجودياً، وهذا ما يبرر استجاباتها التي تختلف بطبيعتها عن الإجراءات السياسية العادية. فرضت الحكومات حول العالم تدابير جذرية، بما في ذلك إغلاق مدن وأحياء كاملة، وفرض حظر التجول، ومنع رحلات السفر، وإعلان حالة طوارئ، ونشر قوات عسكرية. في الولايات المتحدة، لجأ ترامب إلى قانون الإنتاج الدفاعي لدعم مقاربته تجاه "كورونا" وعيّن جنرالاً برتبة 4 نجوم في منصب رئيس "عملية سرعة الالتفاف"، أي حملة التلقيح في الولايات المتحدة. هذه الحرب الضمنية لم تُجرِّد الدول من واجباتها الأخلاقية بمساعدة الآخرين فحسب، بل إنها رفعت قيمة الإمدادات الطبية الأساسية وزادت صعوبة تأمينها أكثر من أي وقت مضى، بما في ذلك معدات الحماية الشخصية والمكونات الدوائية الفاعلة.

بناءً على مبدأ مساعدة الذات، سارعت الدول إلى فرض ضوابط على رحلات السفر وتطبيق تدابير وقائية، تزامناً مع التنافس على أجهزة التنفس الاصطناعي والأقنعة الجراحية. هكذا أصبح التعاون الصحي الدولي، بالنطاق الذي كان عليه، مجرّد جزءٍ من المصالح الوطنية الضيقة. رفضت الصين عرض "المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض" بإرسال علماء أوبئة إليها في مرحلة مبكرة من تفشي الوباء، ثم حصرت واشنطن مستوى التعاون الصحي العام مع بكين، على اعتبار أن الصين كانت تخالف الاتفاقيات الصحية الدولية لترسيخ نفوذها في الخارج. هذه العوامل نفسها أنتجت بعد فترة قصيرة مشاعر قومية مرتبطة باللقاح، فتشجّعت الدول الغنية على عقد اتفاقيات منفصلة مع أبرز شركات تصنيع اللقاحات لتأمين الكميات التي تحتاج إليها قبل غيرها. لكن طلب البعض جرعات تفوق حاجته. تفيد التقارير بأن كندا مثلاً حجزت بين 5 و10 جرعات لكل مواطن.

أدى تغيّر ميزان القوى بين الصين والولايات المتحدة بسبب تفشي "كورونا" إلى ترسيخ المشاعر القومية. كانت الصين أول جهة تتعافى من الوباء بما أنها أول دولة انتشر فيها. سجّل اقتصادها نمواً بنسبة 2.3 في المئة في عام 2020، مقارنةً بـ3.5 في المئة تحت الصفر في الولايات المتحدة.

من المتوقع أيضاً أن يستمر تراجع الفرق بين الناتج المحلي الإجمالي في البلدَين، ما قد يؤدي إلى تأجيج مخاوف واشنطن من احتمال أن تتفوق عليها الصين وتصبح أقوى دولة في العالم. مادام البلدان ينظران إلى الوباء من منظور الأمن والمنافسة، لا مفر من أن يعطيا الأولوية لمكاسب السلطة النسبية بدلا من التركيز على المنافع المطلقة للتعاون الصحي العام.

مصلحة عامة عالمية

لم يفت الأوان بعد على تغيير الوضع. رغم استفحال الوباء في الولايات المتحدة واستمرار موجاته المزعجة في الصين، يتجه العالم نحو التلقيح المكثّف والمناعة الجماعية. لكن يجب أن تتعاون هاتان القوتان البارزتان كي لا تعيق مظاهر التسييس ومخاوف الأمن القومي التعاون الدولي عند ظهور أي وباء آخر في المراحل المقبلة.

لتحقيق هذه الغاية، يجب أن تتخذ الصين والولايات المتحدة الخطوات اللازمة لتبديد التوتر السياسي والعسكري. ويجب أن يعيد البلدان فتح قنوات التواصل بينهما عبر استئناف الحوار الأميركي الصيني الشامل الذي انهار خلال عهد ترامب. غالباً ما يُعتبر هذا النوع من التواصل مجرّد كلام غير مثمر، لكنه قد يُضعِف الحسابات الخاطئة المحتملة ويقلّص المخاطر الأمنية. كذلك، تستطيع واشنطن أن تستعمل هذه المناسبات لتقاسم خبرتها في مجال تحسين السلامة البيولوجية في المختبرات وبناء مؤسسات لتسهيل تطوير الأدوية. في الوقت نفسه، يمكن توسيع التبادلات العسكرية للسماح لممثلي البلدَين بزيارة مواقع الدفاع البيولوجي التي ترعاها الدولة في كل بلد منهما.

على صعيد آخر، يجب أن تسعى الصين والولايات المتحدة إلى إصلاح منظمة الصحة العالمية وتقويتها كي تتمكن من أداء دور جدير بالثقة ومستقل سياسياً لتنسيق الجهود الدولية عند التعامل مع أي طوارئ صحية عالمية مستقبلاً. يجب أن تحصل هذه المنظمة على استقلالية إضافية، وأن يتوسع دورها لتقاسم المعلومات المرتبطة بالأمراض، وتبديد المفاهيم المغلوطة والشائعات وإجراء التحقيقات حول أسباب نشوء الأوبئة. يتطلب هذا النوع من الإصلاحات مراجعة القواعد الصحية الدولية لتحسين مستوى التزام الدول الأعضاء والسماح لمنظمة الصحة العالمية بجمع معلوماتها الاستخبارية الخاصة كي تتمكن من تسريع قراراتها وتحسينها. في الحد الأدنى، تحتاج المنظمة إلى الوصول إلى بؤر تفشي الأوبئة من دون عوائق.

أخيراً، يجب أن توضع حملة السيطرة على الوباء في إطار المصلحة العامة العالمية، ما يعني أنها تتطلب مساهمات من جميع الدول. لا يمكن أن يحمي أي بلد نفسه من فيروس كورونا قبل كسر سلسلة نقل العدوى العالمية بالكامل. لهذا السبب، يجب أن تزيد بكين وواشنطن، فضلاً عن قوى اقتصادية بارزة أخرى، دعمها لبرنامج "كوفاكس"، أي آلية تأمين لقاحات "كوفيد- 19" على مستوى العالم، لضمان وصول اللقاحات إلى جميع الدول بطريقة عادلة ومنصفة.

قد تبدو هذه المطالب مفرطة في ظل الظروف المشحونة راهناً، لكنّ الوضع يتطلب هذا النوع من الجهود. لقد أصبحت حياة ملايين الناس على المحك، ويمكن تحقيق مكاسب كبرى بفضل التعاون مقابل تكبّد خسائر هائلة بسبب الخلافات حول طرق احتواء الفيروس الذي لا يعرف معنى الانقسامات السياسية ولا الحدود بين الدول.

يان تشونغ هوانغ – فورين أفيرز