تعكس الواقعية في السياسة الخارجية عالماً فوضوياً وخطيراً، حيث تَقِلّ المفاهيم الأخلاقية المطلقة والواضحة، لذا تتفوق المصلحة الوطنية على القيم العالمية، لكن العالم الذي تستفحل فيه الحروب والهجرة وموجات تدفق اللاجئين ومطالب احترام الكرامة الإنسانية على المستويات العرقية والدينية والإثنية يتطلب سياسة خارجية مستدامة من الناحية الأخلاقية ومبنية على الواقعية.

يمكن أن تتعايش الواقعية والمثالية معاً، فقد استعملت التقاليد الدبلوماسية الأميركية حين كانت في أفضل حالاتها النزعة الإنسانية كأداة تكميلية لسياسة القوة بدل أن تكون نقيضاً لها، إذ تؤثر هذه المعطيات بعمق على المنافسة القائمة مع الصين وروسيا اليوم وطريقة تعامل إدارة بايدن مع هذا الوضع.

Ad

جمع الراحل جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي في عهد رونالد ريغان، بين الواقعية الصارمة والنزعة الإنسانية،

لا سيما في أنحاء إفريقيا، وعلى غرار وزراء الخارجية الناجحين الآخرين، أدرك شولتز أن السياسة الخارجية التي تعتمدها القوى العالمية ترتكز على تسلسل هرمي من الحاجات ويُفترض أن تكون المبادرات الأخلاقية جزءاً من ذلك التسلسل لكسب دعمٍ دائم من الرأي العام. يشتق الرابط بين الواقعية والمثالية من هذا المفهوم تحديداً.

على سبيل المثال، أقدمت السفن الحربية والغواصات الأميركية في البحر الأبيض المتوسط على إطلاق صواريخ «كروز» في حرب كوسوفو في عام 1999، مع أن تلك المنصات لم تنشأ في الأصل لتحقيق أهداف إنسانية، كذلك كان يستحيل الفصل بين التدخلات الإنسانية في البلقان خلال التسعينيات ومسؤوليات القوة الأميركية العظمى التي عادت ووسّعت مهام حلف الناتو لاحقاً كي تشمل البحر الأسود غداة الانتصار في الحرب الباردة.

يُعتبر التوتر بين الواقعية والمثالية طبيعياً نظراً إلى توسّع الالتزامات في الخارج، حيث تكون الأزمات متواصلة ومعقدة ومثيرة للانقسامات، لكن يبقى ذلك التوتر إثباتاً على تقليد أخلاقي يُميّز الولايات المتحدة عن قوى استبدادية مثل الصين وروسيا اللتين تطبّقان نسخة أحادية البُعد من الواقعية السياسية.

يمكن اعتبار السياسة الخارجية امتداداً خارجياً للظروف المحلية، وقد كانت العوامل الداخلية المُحبِطة مسؤولة عن وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة في نوفمبر 2016، لكنّ شعار «أميركا أولاً» الذي طرحه ترامب وعَكَس من خلاله سياسة انعزالية جديدة لا يستطيع أن ينتزع الشرعية من سياسة التعاون الدولي التي طبّقها شولتز وأولبرايت وهولبروك وآخرون. ينطبق هذا الوضع على عصر التكنولوجيا المتطورة اليوم، حيث تتّضح ملامح عالمٍ خانق ومُنكمش ومنشغل بالأوبئة والمنافسة بين القوى العظمى، فلا يمكن أن تتعايش الواقعية والمثالية إلا بعد التواصل مع عالمٍ أوسع حجماً. المنافسة بين القوى العظمى حقيقية، لكنّ البيئة الإعلامية العالمية التي تطلق أحكاماً لا متناهية على أفعالنا تبدو حقيقية بالقدر نفسه.

يجب ألا ينسى أحد أن الحرب الباردة انتهت بتحقيق النصر لأن الولايات المتحدة فازت بتأييد الناس في أوروبا الشرقية الشيوعية، وشكّل إعلان الحُكم العرفي في بولندا في عام 1981 هزيمة للاتحاد السوفياتي بدل أن يكون انتصاراً له لأنه أثبت أن أكبر الجهات التابعة للكتلة الشرقية، بعد عقود من حُكم الحزب الشيوعي، لا تزال بحاجة إلى الأجهزة العسكرية والأمنية لمتابعة السيطرة على السكان، فسرعان ما سقطت الشيوعية في أوروبا الوسطى والشرقية في المرحلة اللاحقة.

في النهاية، لا يمكن أن تندثر الواقعية لأنها مبنية على مجموعة من الحدود والضوابط والخيارات الصعبة، ولا يمكن أن تندثر المثالية لأنها تحاكي الروح البشرية منذ عصر الكاتب التراجيدي اليوناني يوريبيديس، ولن تجد الولايات المتحدة دعوتها الحقيقية والسمعة التي تريدها إلا عبر الاستفادة من التوتر الخلاق بين هاتين النزعتَين، وهذا هو سر الفوز في الحرب الباردة، ففي ما يخص الحقبة المعاصرة من صراعات القوة، يتعلق الهدف الأساسي اليوم بالعودة إلى نموذج جورج شولتز الهادئ والمتواضع.

روبرت كابلان - تايم