خلال السنوات القليلة الماضية، تلاحقت التحذيرات حول وضع الديمقراطية في الهند، وقد تعلّقت تحديداً بمصير الأقليات أو المحاكم والمفكرين محلياً، فتراكمت تلك المخاوف مع مرور الوقت قبل أن تتحول إلى حركة احتجاجية كبرى بدأت تطغى على الوعي الشعبي، محلياً وخارجياً، وفي السنوات القليلة الماضية، بدأت الحكومة الهندية تهاجم بنية صحافتها الحرّة تدريجاً وقد بالغت في ممارساتها مجدداً في الأسبوع الماضي، فوصل هجوم حكومة بلدي إلى عقر داري هذه المرة!

يقع منزلي في مبنى متعدد الطوابق في وسط نيودلهي، على طرف حديقة واسعة، على بُعد مسافة قصيرة من أسواق «كارول باغ» والمتاجر الفاخرة في «ميدان كونوت». لم أزر هذا الموقع منذ فترة، لكني تركتُ قلبي هناك، حيث يشمل ذلك المكان مكاتب مجلة «ذا كارافان».

Ad

«ذا كارافان» مجلة بسيطة يقتصر عدد موظفيها على عشرات الأشخاص وتُعتبر قاعدة قرائها صغيرة مقارنةً بصحف مطبوعة أخرى وناطقة باللغة الإنكليزية في الهند، لكنّ حجمها الصغير يخفي قوتها الحقيقية، إذ يقرأها وزراء في الحكومة وزعماء المعارضة وتتابع المنشورات الأكبر حجماً تقاريرها بانتظام، كذلك يحظى فريق المجلة المؤلف من صحافيين موهوبين بدعم مجموعة مهمة من المساهمين، إذ يلاحظ هؤلاء جميعاً نقاط قوة المجلة واختلافها عن المنشورات الشائعة الأخرى في الهند.

خلال الأسبوع الماضي، فتحت فروع متعددة من الشرطة تحقيقات حول المحررين في مجلة «ذا كارافان» ومجموعة من الصحافيين والكتّاب الآخرين على خلفية تغطيتهم للاحتجاجات التي أطلقها مزارعون معارضون للإصلاحات الزراعية التي تدعمها حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، وقد علّق مكتب «تويتر» في الهند حساب المجلة وحسابات مئات المستخدمين الآخرين بعد تلقّيه «طلباً قانونياً» من الحكومة. (فُتِح حساب «ذا كارافان» مجدداً في المرحلة اللاحقة، لكن تفيد التقارير بأن الحكومة تُهدد باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بسبب عدم امتثال تويتر لطلباتها). عبّرت المجموعات الداعمة لحرية الصحافة عن سخطها إزاء ما حصل، لكن لا يزال حجم تأثيرها على الوضع غير واضح.

تشكّل الاعتداءات الأخيرة جزءاً من جهود مألوفة ترتكز على القضايا القانونية والتهديدات الشخصية وحملات الترهيب ضد المواقع الإخبارية والصحافيين الفرديين، وهي تؤكد ظاهرة باتت واضحة للجميع: أصبحت حرية الصحافة التي تُعتبر حقاً دستورياً مُهدّدة في الهند خلال عهد مودي. يتّضح حجم التحولات الحاصلة في الهند وابتعاد البلد عن قِيَمه التأسيسية من خلال الاستعمال الفاضح لمواقع التواصل الاجتماعي لفرض الرقابة على الصحافيين، واستعمال الشرطة والمحاكم لإسكاتهم، والأهم من ذلك انتشار الفكرة القائلة إن جميع الجهات التي تغطي الاحتجاجات تُضعِف الدولة بطريقة ما.

تزعم السلطات أن مجلة «ذا كارافان» ووسائل إعلام أخرى هي التي أجّجت الاضطرابات التي بدأت في 26 يناير، تزامناً مع «يوم الجمهورية» في الهند، عبر تغطية الأحداث باستعمال هاشتاغ محدد، ففي ذلك اليوم، استخدمت شرطة نيودلهي الغاز المسيل للدموع ضد المزارعين المحتجين، منهم رجال متقدمون في السن، تزامناً مع تنظيم استعراض لتسليط الضوء على القوة العسكرية الهندية وإرث البلد الثقافي الغني.

عمد عدد من القنوات الإخبارية إلى تقسيم الشاشات لنقل هذين المشهدين: الاحتفال بالديمقراطية في الهند من جهة، وسحق المعارضين من جهة أخرى، فشكّل هذا المشهد صورة مجازية مثالية للتعبير عن حقيقة الهند المعاصرة.

من وجهة نظر المراقبين الخارجيين، تتمحور فكرة الهند في الأصل حول الروحانية والتصوف، وغاندي واللاعنف، والرحالة وممارسي اليوغا. قد تبدو هذه القناعات نمطية، لكنها تشتق من الحقيقة: ترتكز الفكرة التأسيسية للبلد على وحدة الولايات وتنوع الأديان وحرية تقبّل ذلك التنوع. يرمز «يوم الجمهورية» إلى تكريس الدستور الهندي الذي خضع لنقاشات مطولة وتم الاتفاق عليه خلال السنوات التي تلت الاستقلال. تذكر مقدمة تلك الوثيقة أن الهند مُصمِّمة على تشكيل أمة مبنية على العدالة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد والإيمان والعبادة، والمساواة في المكانة والفرص، ونشر مظاهر الأخوة قبل أي شيء آخر.

هكذا كان جوهر الهند في الماضي، لكن البلد أصبح مختلفاً بالكامل اليوم، ففي الوقت الراهن، لم يعد انتماء أغلبية الهنود إلى الديانة الهندوسية مجرّد واقع ديمغرافي بل أصبح ركيزة أساسية لحُكم البلد، وبعدما كانت حرية الفكر مقدسة في الماضي، يتعرض الصحافيون اليوم للاعتقال، حتى أن الولايات الموحّدة رغم تنوعها تحوّلت الآن إلى مجتمع منقسم حيث يواجه المسلمون النبذ ويتعرّض المزارعون للضرب لأنهم يدافعون عن حقوقهم.

سيكون لوم ناريندرا مودي على هذا الوضع موقفاً مبسّطاً جداً، فقد عمد رئيس الوزراء الهندي، منذ إعادة انتخابه قبل أقل من سنتين، إلى إلغاء الحُكم الذاتي في جامو وكشمير، الولاية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في الهند، وقرر تعديل الدستور لفرض اختبار مواطنة له طابع ديني ويستثني المسلمين، ودَعَم إصلاحات كانت كفيلة بإطلاق اضطرابات مدنية وسط المزارعين، ولا ننسى الأطباء الذين يحتجون على قرار الحكومة بالسماح لمزاولي طب الأيورفيدا بإجراء جراحات طبية، ويحتجّ الطلاب أيضاً على حملة الهجوم ضد المفكرين، وترفع النساء الصوت ضد ثقافة الاغتصاب السائدة في الهند، ويحارب المنبوذون من طبقة «الداليت» القمع الطائفي الذي يتعرضون له.

لم تتآكل الديمقراطية في الهند خلال لحظة واحدة أو بسبب رجل واحد، بل تزامن هذا الوضع مع صدور قرار من المحكمة يفرض على رواد السينما أن يقفوا على وقع النشيد الوطني، وإقدام ضباط الشرطة على إجبار رجال مسلمين مصابين على غناء ذلك النشيد أمام الكاميرا من دون أن يخافوا من تعرّضهم للعقاب، ودعم بوليوود لوحشية الشرطة والعدالة الانتقائية.

لكن يبقى مودي شخصية محورية في هذه الأحداث كلها، ومثلما ترتكز الهند على قصة أسطورية حول تأسيسها، يحمل مودي أيضاً حكاية شخصية من هذا النوع، فهو كان بائع شاي لكنه نجح في بلوغ أعلى منصب في البلد. تُعتبر هذه القصة، التي يكررها رئيس الوزراء الهندي في مناسبات كثيرة، نقيضاً للامتياز العائلي الذي يتمتع به «حزب المؤتمر» الهندي المعارِض (ينحدر رئيسه الحالي من عائلة رؤساء وزراء سابقين)، وهي تعطي مودي الحق بمطالبة الهنود بتقديم التضحيات، وهذا ما سمح له بفرض تدابير صارمة لتطبيق الإقفال التام في المراحل الأولى من وباء كورونا المستجد، وسحب كميات هائلة من العملة الهندية بين ليلة وضحاها، وتجريد كشمير من مكانتها الخاصة كإقليم ذاتي الحُكم.

بقيت شعبية مودي متماسكة في كل مرة يتخذ فيها هذه القرارات، مع أن الوعود التي قطعها لم تتحقق على أرض الواقع، إذ تُسجّل الهند ثاني أعلى عدد من الإصابات بفيروس كورونا في العالم، وتحتل وفيات كورونا فيها المرتبة الرابعة عالمياً، كذلك لم تتحقق أي منافع كبرى نتيجة أخذ كميات هائلة من الأموال النقدية من النظام المالي في محاولة ظاهرية لمحاربة الفساد، بل أدت هذه الخطوة إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية.

أخيراً، لم يكن إنهاء استقلالية كشمير كفيلاً بإرساء السلام في المنطقة ويتعلق السبب جزئياً بالقواعد التي تطبّقها حكومته، فهي تشمل إنكار الوقائع، ونشر الأكاذيب، والإفصاح عن حقائق مجتزأة لتحويل الإخفاقات الكارثية إلى انتصارات تستحق الاحتفال.

تُعتبر التحركات المعادية لمجلة «ذا كارافان» ومجموعة أخرى من الصحف ووسائل الإعلام مثيرة للقلق لهذا السبب تحديداً، فقد ركّزت وكالات إخبارية كثيرة على خطابات الحكومة، كما يُفترض أن تفعل الصحافة الحرة في أي بلد ديمقراطي. هي لم تفعل ذلك لأنها تعارض مودي بل لأنها ملتزمة بنشر الحقيقة، فقد عرضت مجلة «ذا كارافان» مثلاً مواصفات شاملة عن سلف مودي، مانموهان سينغ، عبر استعمال الدرجة نفسها من التدقيق الصحافي المعتمد مع الحكومة الراهنة.

تبدو الحرب على الحقيقة في الهند مشابهة للحرب على الحقيقة في الولايات المتحدة، لكننا قد لا نفهم حجم الانهيار الحاصل بالكامل، ومن الواضح أنه زعزع أساس الوقائع الشائعة حول الأمّة الموحدة التي يعرفها الهنود، كما حصل في الولايات المتحدة.

لكنّ بلداً ضخماً ومعقداً بقدر الهند لا يقتصر على الأعلام والنشيد الوطني والآثار، بل إنه يتألف من عوامل قوية وهشة في آن ويرتكز على قيم المساواة والعدالة والحرية والأخوة.

بسبب الهجوم المباشر على الصحافة والحقيقة عموماً، فرّغت حكومة مودي البلد من هذه الأفكار وجرّدته من روحه الجوهرية، وعلى غرار الأميركيين، لم يعد الهنود يتقاسمون مجموعة مشتركة من الوقائع، حتى أنهم لا ينسبون المعنى نفسه إلى مختلف الكلمات، بل يجب أن يكون المواطنون «مؤمنين مطيعين» مثل مناصري مودي.

بعبارة أخرى، تحوّلت تعقيدات الهند الراسخة التي تشتق من التنوع الديني والثقافي إلى سلاح بحد ذاته، ومع كل تضحية جديدة، سيبتعد الهنود تباعاً عن روحهم التأسيسية التي يُحدّدها الدستور الهندي ويحتفل بها «يوم الجمهورية» إلى أن تخسر تلك الكلمات معناها بالكامل.

فيديا كريشنان – ذا أتلانيتك