الكتاب الجديد، الذي يحمل توقيع الدكتور ياسر منجي، الأستاذ المساعد في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، يُتوقع أن يحظى باهتمام كبير، خصوصاً في الأوساط التشكيلية، إذ يوثّق للبقية الباقية مِن الأعمال المعروفة للفنان القبطي الراحل نحميا سعد ("نحميا" هو اسم قبطي كنسي إنجيلي)، بالإضافة إلى كشفه أعمالاً مجهولة لم تُوَثّق من قبل في مرجعيات تاريخ الفن المصري الحديث. كما يشتمل على تحليلات نقدية وافية لبعض تلك الأعمال المجهولة، تضمنَت رؤية المؤلف لسمات الأسلوب الفني ومعالم الأداء التقني لدى نحميا سعد، كما يتضمن الكتاب بعض المواد الوثائقية ذات الصلة بفنه وسيرته.

يقول الناقد التشكيلي ياسر منجي: "حين رحل نحميا سعد في رونَق الشباب، عن ثلاثةٍ وثلاثين عاماً، كان قد أقام في سنواتٍ معدوداتٍ فقط دعائم اتجاهٍ مصريٍ صميم في مجال الطباعة الفنية، رغم ما لَقِيَه من أرزاءِ الدنيا وقساوة البشر، وعلى الرغم من الفقر والجوع والمرض، التي اتخذت منه هدفاً لتسديد ضرباتها القاصمة، لِيَذوي سريعاً في غَضارة العُمر، فكانت حياته القصيرة الشقية نموذجاً فريداً، يثبت أن الأستاذية في الإبداع ليست مشروطةً بالسن، ولا بالظروف، ولا بِكَمّ الإنتاج، بل مشروطةٌ بأن يكون للفنان روحٌ وشخصيةٌ يُمَيِّزانِه عن غيرِه، فيكون أو لا يكون".

Ad

ويتابع المؤلف: "كأنما كان نحميا بذلك مُعادلاً تاريخياً للفتى هاملت Hamlet، بطل المأساة الشكسبيرية الشهيرة؛ إذ نالَه في الواقع قِسط وافر مما نال نظيره المسرحي من صدمات وأزمات وجودية وغدرٍ طالَه مِمَّن كتبت عليه المقادير أن يعيش بينهم، فكان خليقاً به أن يكون هاملت الجرافيك المصري. ولَئِنْ كان (هاملت) أميراً بمقياس الثراء والنفوذ، فخَليقٌ بـ(نحميا) أن يُتَوَّجَ، بمقياس الإبداع والأصالة، بين أساطين الفن ونجومِه".

وإذ يعيد الكتابُ الاعتبار لسيرة هذا الفنان الفَذّ، فإنما لإعادة ربطها بذاكرة الفن المصري الحديث والمعاصر، ولمحاولة إعادة شيءٍ من الاستواء إلى ميزان العدالة التاريخية، الذي ظل مُختلّاً قرابة خمسة وسبعين عاماً مرت على رحيلِه، وظلت خلالها شذراتٌ من سيرته، وصورٌ قليلةٌ من بقايا أعماله، مبعثرةً في مواضع مختصرة مُشَتَّتة ببعض الكتب، ويعاد تكرارُها من دون تأصيلٍ أو توثيقٍ أو تحليلٍ لسياقها وتفاصيلها الدقيقة.

ويهدي ياسر منجي كتابه إلى الفنان الراحل قائلاً: "إلى روحِه الوديعة أُهدي هذا الجهد القليل، عساهُ يكون استعادةً لبعض حقِّه الذي تأخر الاعترافُ به كثيراً، غير أنه لم يسقُط بالتقادُم".

ويُعَدُّ هذا الكتاب حلقةً من سلسلة من الإصدارات، المتصلة المنفصلة، التي تمثل مشروعاً لإعادة الكشف عن مجاهيل من الفنانين المؤثرين في حركة الفن المصري الحديث، وآخرين مِمّن لم يحظوا بالقدر اللائق من البحث الاستقصائي المُعَمّق، على المستويَين النقدي والتأريخي. وقد بدأ ياسر منجي هذا المشروع منذ 2010، وصدر في سياقه كتاب "برنارد رايس: الأب المجهول للجرافيك المصري" (2012)، وكتاب "النحات مصطفى نجيب: بصمات مُعَلِّمٍ على حوائط الغُربة" (2014)، فضلاً عن العديد من الدراسات البحثية، والمقالات النقدية والتأريخية، التي نشرها تباعاً في عددٍ كبير من المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية العربية، وكذلك ضمن كتالوغات ومطبوعات مصاحبة لبعض الفعاليات والعروض الفنية.

نحميا سعد أبرز التشكيليين في تاريخ مصر الحديث

يُعد نحميا سعد من أبرز الفنانين التشكيليين في تاريخ مصر الحديث، رغم حياته الفنية القصيرة. وقد وُلِد في 8 أبريل 1912 في مدينة ملوي، بمحافظة المنيا (بصعيد مصر) لأب يعمل تاجراً بسيطاً ينتمي في الأصل لقرية "دير البرشا" (شرقي نهر النيل)، حيث كان يشاهد بشغف عند زيارته لأقاربه بعض المقابر الفرعونية التي تعود للدولة القديمة، والتي كانت تزخر بالرسوم المبهرة التي تشرح كيف كان ينقل المصريون القدماء تماثيلهم الضخمة، وهو ما جعله يصمم على الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة، فغادر إلى القاهرة عام 1928 وحقق حلمه.

أما عن أسلوبه الفني، فهو فنان له عراقة أرض الصعيد التي عاش في ربوعها، وظل وفياً لمشاهدها، وقد أعطى مصر الكثير من الأعمال التي تمتاز برهافة خطوطه، وروعة تكويناته المصرية العريقة التي تتضح من اللوحات التي خلفها. وشارك في العديد من المعارض في مصر والخارج، وحصل على الميدالية الذهبية عن معرض باريس الدولي (1937). وقد توفي نحميا عام 1945 في مصحة للأمراض الصدرية بحلوان (جنوب القاهرة) بمضاعفات مرض السل، وسوء التغذية، عن عمر يناهز 33 عاماً.

أحمد الجمَّال