يصرّ آبي راهناً على انتهاء الحرب في "تيغراي" ويزعم أن قواته حققت انتصاراً حاسماً على "جبهة تحرير شعب تيغراي" وأن التقارير المرتبطة باستمرار حركة التمرّد خاطئة. حتى أن رئيس الوزراء استأنف جدول أعماله العادي، فسافر إلى شمال كينيا في وقتٍ سابق من هذا الشهر لافتتاح مركز حدودي جديد مع رئيس كينيا أوهورو كينياتا ولتعزيز الانطباع القائل إن إثيوبيا عادت إلى وضعها الطبيعي.

لكنّ الواقع في "تيغراي" مختلف جداً. تستولي القوات الإثيوبية اليوم على معظم أجزاء المنطقة لكنها لا تفرض عليها سيطرة كاملة، وقد توارى عن الأنظار عدد كبير من قادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" ومقاتليها. تمكنت القوات الإثيوبية من الاستيلاء على عاصمة الإقليم "ميكيلي" بهذه السرعة لأن جبهة التحرير سبق وسحبت عدداً كبيراً من مقاتليها ووزعتهم في المناطق الريفية والمساحات الجبلية النائية في الإقليم.

Ad

في هذه الظروف لا يمكن استبعاد نشوء حركة تمرّد متواصلة ودموية. حتى أن أي انتفاضة في "تيغراي" قد تصبح مُعدية أو تطلق حركات تمرّد مماثلة في أجزاء أخرى من البلد. وحتى لو تخلصت القوات الإثيوبية في نهاية المطاف من "جبهة تحرير شعب تيغراي"، قد تتفاقم مشاعر البغض الشعبية العميقة تجاه حملة رئيس الوزراء العدائية، ما يؤدي إلى نشوء جيل جديد من القادة المعادين لآبي، ولا شك في أنهم سيبذلون قصارى جهدهم لمقاومة أديس أبابا.

بعيداً عن "تيغراي"، سرّعت الحرب أزمة الشرعية التي يواجهها آبي منذ فترة. بعد أقل من ثلاث سنوات على إطلاق الإصلاحات الديمقراطية وبعد سنة على تلقيه جائزة نوبل للسلام، يجد رئيس الوزراء الإثيوبي نفسه اليوم على أعتاب حرب وقد يضطر لحُكم البلد عبر استعمال أسلوب الإكراه بدل التسويات. وفي ظل غياب أي خطاب موحّد لتشريع سلطته وتراجع الدعم الدولي الذي يتلقاه، قد تصبح تداعيات الصراع في "تيغراي" أسوأ بكثير من السيطرة على الحرب بحد ذاتها.

معركة شاقة

ادعى آبي سريعاً أن شعب "تيغراي" احتفل بـ"تحرّره" بفضل القوات الإثيوبية. عملياً، كان الهجوم العسكري مهيناً بحق "جبهة تحرير شعب تيغراي" وقد أجّج بذلك المشاعر القومية هناك. على مر 28 سنة قبل وصول آبي إلى السلطة، سيطر هذا الحزب على الائتلاف الإثيوبي الحاكم المعروف باسم "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" تزامناً مع الدفاع بشراسة عن استقلالية شعب "تيغراي". لكنّ اختيار آبي رئيساً للوزراء في عام 2018 كبح سطوة "جبهة تحرير شعب تيغراي" على السلطة وجرّدها من معظم امتيازاتها.

نتيجةً لذلك، أدت محاولات آبي إخضاع "تيغراي" عسكرياً وفرض سيطرته على حكومتها إلى تأجيج مشاعر النفور من الحكومة المركزية.

زاد نظام آبي الأوضاع سوءاً حين أطلق حملة من التمييز المنهجي. فيما كانت القوات العسكرية تقتحم "تيغراي"، قررت أديس أبابا إقالة مسؤولين يتحدرون من ذلك الإقليم من السفارات وبعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي في الصومال، وحتى من شركة الطيران الوطنية. وبحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش"، يتعرض الناس المتحدرون من "تيغراي" والمقيمون خارج الإقليم لمضايقات متزايدة، منها مداهمات تعسفية لمنازلهم من جانب قوى الأمن.

وحتى "لجنة حقوق الإنسان في إثيوبيا" أعلنت عن قلقها الشديد من الفرز العرقي الذي يتعرّض له شعب "تيغراي"، وقد اتّضحت هذه الظاهرة عبر حالات الطرد ومنع الناس من السفر إلى الخارج بداعي العمل أو الدراسة أو لتلقي العلاجات الطبية.

لا مفر من أن تتصاعد حركة التمرد مع زيادة احتمال أن تعاقب أديس أبابا شعب "تيغراي" في أنحاء البلد. لكن تخوض "جبهة تحرير شعب تيغراي" معركة شاقة ضد الدولة الإثيوبية. أصبح المقاتلون في الجبهة خبراء في حرب العصابات خلال الصراع الذي أسقط الحكومة العسكرية المؤقتة لإثيوبيا الاشتراكية، لكن تُعتبر حكومة آبي خصماً أقوى بكثير وأصبحت البيئة الدولية أقل دعماً لشعب "تيغراي" مما كانت عليه خلال الثمانينيات. في تلك الفترة، كانت "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" جزءاً من حلفاء "جبهة تحرير شعب تيغراي". اليوم، أصبحت إريتريا دولة مستقلة وهي تضع "جبهة تحرير شعب تيغراي" في مصاف أعدائها. كذلك، أصبح قادة "تيغراي" عالقين بين إريتريا والسودان ولا يجدون منفذاً سهلاً نحو الحدود الدولية لضمان حصولهم على الأسلحة والإمدادات.

لا تعني هذه الضوابط أن جهود "جبهة تحرير شعب تيغراي" محكومة بالفشل، بل تشير إلى احتمال أن يكون التمرد ضعيفاً ومطولاً وأن تتوقف فاعليته جزئياً على قدرة الجبهة على تشكيل التحالفات مع جماعات متمردة أخرى لإضعاف الجيش الإثيوبي.

من المتوقع أيضاً أن تتمدد المقاومة في "تيغراي" وتصل إلى ما وراء ساحة المعركة. بغض النظر عن قدرة "جبهة تحرير شعب تيغراي" على إطلاق حركة تمرّد قوية ومتواصلة، ستؤدي حملة آبي العسكرية ومظاهر التمييز التي يستعملها نظامه ضد شعب "تيغراي" إلى ترسيخ المقاومة السياسية ضد الحكومة الفدرالية في "تيغراي" طوال جيل كامل على الأقل. ووسط غياب أي إجماع حول هذه المسألة، ستضطر أديس أبابا لحُكم البلد عن طريق القمع.

بين القمع والإصلاح

من الواضح أن حملة التمييز التي أطلقتها الحكومة الإثيوبية ضد شعب "تيغراي" ومحاولاتها تعزيز مركزية السلطة تُهدد شرعية آبي في أنحاء البلد. دعت "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" إلى احترام استقلالية مختلف الجماعات الإثنية الكبرى في إثيوبيا وذهبت إلى حد المطالبة بإضافة حق تلك الجماعات بتقرير مصيرها إلى الدستور. لكن فشلت هذه الجبهة في معظم الأوقات في تنفيذ هذا الوعد واتضح ذلك عند اندلاع الاحتجاجات في "أوروميا" وأماكن أخرى في السنوات الأخيرة. وتزامناً مع الإنجازات التنموية المبهرة التي قادتها الدولة، أعطى مبدأ الفدرالية العرقية الحكومة فرصة نشر خطاب قوي محلياً وخارجياً.

قرر آبي حلّ "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية" لمصلحة جهة سياسية جديدة: إنه "حزب الازدهار" الذي قرر منذ نشوئه قمع الإقليم الذي يطالب بتوسيع هامش استقلاليته. حاول رئيس الوزراء زيادة الدعم لتلك العملية الهجومية عبر تنظيم مسيرات حاشدة واستغلال الغضب الشعبي من هيمنة "جبهة تحرير شعب تيغراي" طوال سنوات على "الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية". سهّلت "جبهة تحرير شعب تيغراي" أحياناً حملة تشويه سمعة آبي عن غير قصد، لاسيما حين أقدمت على إطلاق الصواريخ نحو منطقة "أمهرة" المجاورة. لكن بذلت حكومة آبي جهوداً حثيثة أيضاً لتأجيج المشاعر المعادية لشعب "تيغراي" بهدف تبرير توغلها العسكري في الإقليم الشمالي.

من المتوقع أن تزيد هذه التكتيكات تعقيد أي جهود يبذلها رئيس الوزراء لإعادة إحياء مبدأ تقرير المصير لصالح الجماعات العرقية. مع ذلك، قد يحاول آبي استئناف أجندته الإصلاحية وتنظيم انتخابات ديمقراطية تأخرت كثيراً بسبب تفشي فيروس كورونا أو ربما بسبب قلق آبي من نتائجها السلبية. سترحّب الجهات المانحة الغربية وعدد من الجماعات الإثنية في إثيوبيا بهذه الخطوة. لكن سيجد آبي صعوبة في تبنّي خطاب داعم للإصلاح الديمقراطي بما أن هجومه العسكري ضد "جبهة تحرير شعب تيغراي" حصل بعد أشهر قليلة على اتهام قوى الأمن بانتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع خلال العمليات الأمنية في إقليمَي "أمهرة" و"أوروميا".

كذلك، قد يواجه آبي تحديات إضافية من الجماعات المتمردة وأحزاب المعارضة بسبب استمرار الإصلاحات وانحسار سيطرة الحكومة المركزية في المرحلة اللاحقة.

لهذا السبب، قد يفضّل آبي أن يعيد التأكيد على هيمنة الدولة المركزية ويوسّع تحركات قوى الأمن لكبح المعارضة. قد يتكل أيضاً على خطابه المعادي لـ"جبهة تحرير شعب تيغراي" لتشريع هذه المقاربة، فيعلن هذه المرة أن أحداً لا يحق له التصرف بما يتعارض مع المصلحة الجماعية ويعتبر الجماعات التي تتبنى هذه التصرفات إرهابية.

يظن عدد كبير من منتقدي آبي أن رئيس الوزراء يتمنى في أعماقه أن يرسّخ مركزية السلطة لكنه يعرف أن هذه الخطوة ستقضي على الصفقة التي حافظت على تماسك البلد في آخر ثلاثة عقود، ما يؤدي إلى نشوء حركات تمرّد جديدة وتفاقم الصراعات القائمة.

خارج "تيغراي" أيضاً، اتّضح فشل آبي في فرض سيطرة فاعلة على أقاليم إثيوبيا الشاسعة. ينحدر رئيس الوزراء من إقليم "أوروميا"، لكنه فشل رغم ذلك في كبح الاضطرابات هناك أو في أقاليم "ووليجا الغربية" و"بني شنقول-غومز". تزامناً مع استمرار القتال في "تيغراي"، تشكّل حركات التمرد القديمة والاشتباكات المألوفة بين الجماعات العرقية المتناحرة في تلك الأقاليم مؤشراً مهماً على صعوبة الحفاظ على الاستقرار السياسي في إثيوبيا ودليلاً واضحاً على حتمية سقوط أي حكومة تحاول التمسك بالسلطة عبر استعمال القوة.

خيار شائك

سيواجه آبي ضغوطاً إضافية من وراء الحدود الإثيوبية بغض النظر عن الخيارات التي يتخذها في المرحلة المقبلة. قدّم رئيس إريتريا أسياس أفورقي دعماً عسكرياً للعملية الهجومية التي أطلقها آبي في "تيغراي" ويتوقع أن يحصد مكافأة على ما فعله. يحمل أفورقي مشاعر عدائية عميقة تجاه قادة "جبهة تحرير شعب تيغراي" وسيحاول على الأرجح ثني آبي عن إقرار تسوية يتم التفاوض عليها معهم.

لكن إذا أصرّ آبي على إرضاء أفورقي عبر متابعة إحكام قبضته على إقليم "تيغراي" ومضايقة "جبهة تحرير شعب تيغراي" عسكرياً ومنع وصول المساعدات إلى المحتاجين، ستُمهّد هجرة اللاجئين إلى السودان المجاور لتفاقم التوتر مع ذلك البلد.

سبق وحاول رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك لعب دور الوساطة للاتفاق على وقف إطلاق النار بين "جبهة تحرير شعب تيغراي" والحكومة الإثيوبية.

وفي محاولة محتملة لكسب نفوذ إضافي، تفيد التقارير بأن القوات السودانية انتقلت إلى مثلث الفشجة، وهو إقليم متنازع عليه بين السودان وإثيوبيا.

على صعيد آخر، سيؤدي استمرار التحرك العسكري الإثيوبي في "تيغراي" (وتقبّل تدخّل إريتريا هناك) إلى تعقيد العلاقات مع الجهات المانحة الغربية التي استثمرت حوالي 5 مليارات دولار في إثيوبيا منذ عام 2018. أغفلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تاريخياً عن انتهاكات حقوق الإنسان في إثيوبيا نظراً إلى النجاح التنموي الذي حققه البلد ودعمه للجهود الأميركية في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة، لكن اضطر عدد من الجهات المانحة لتعليق جهوده بسبب طبيعة صراع "تيغراي" وتداعياته البارزة.

قرر الاتحاد الأوروبي حديثاً تأخير إصدار المساعدات المرتبطة بميزانية أديس أبابا نتيجة تصاعد مشاعر الإحباط غداة رفض آبي السماح لوكالات الإغاثة بالتعامل مع الأزمة الإنسانية المتوسعة في "تيغراي".

تعبّر الإدارة الأميركية الراهنة عن دعمها لآبي حتى الآن، لكن قد تكون الإدارة المقبلة أكثر حذراً لأن الرئيس الجديد جو بايدن تعهد بزيادة تركيزه على حقوق الإنسان وقد يزيد اهتمامه بدور إريتريا في هذا الصراع.

تُعتبر إثيوبيا بالغة الأهمية من الناحية الاستراتيجية، وهذا ما يمنع الدول الغربية من التفكير بوقف المساعدات بالكامل. لكن حتى أبسط تراجع في حجم المساعدات الدولية سيشكّل ضربة موجعة لإثيوبيا في ظل انتشار الوباء المستجد والانكماش الاقتصادي المرافق له.

رغم التقدم الذي يتفاخر به البلد في آخر عشرين سنة، تتكل إثيوبيا بشدة حتى الآن على الإغاثات وتغطي المساعدات التنموية أكثر من نصف نفقات الحكومة المركزية.

حتى اليوم، منع التعتيم الإخباري الذي فرضته الحكومة وصول الأحداث الحقيقية في "تيغراي" إلى العالم الخارجي. لكن تكشف التقارير المسرّبة من صحفيين أجروا مقابلات مع اللاجئين وأخبروا تفاصيل قصصهم أن الطرفَين ارتكبا انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. عندما تهدأ الأوضاع مجدداً، من المتوقع أن تتحول الأنباء السيئة الشحيحة إلى سيل من الأخبار المتلاحقة، فتزيد الضغوط على المجتمع الدولي لإعادة النظر بدعمه لآبي وإطلاق تحقيق مستقل حول ارتكاب قواته جرائم ضد الإنسانية. إذا أدى هذا التحقيق إلى تراجع كبير في المساعدات الخارجية، قد يبدأ المستثمرون من القطاع الخاص بتقليص مساهماتهم في إثيوبيا أيضاً.

ستؤدي هذه الخسارة إلى تعميق أزمة الشرعية التي يواجهها آبي، حتى أنها تجازف بإضعاف قبضته على السلطة بغض النظر عن اختياره للقمع أو الإصلاح للتعامل مع الوضع الشائك.

* نيك تشيزمان - TNS

نيك تشيزمان - TNS