في منتصف السبعينيات، كنتُ ضمن مجموعة أصدقاء يجمعهم ويمشي بخطوهم عشق السير في دروب الفكر والإبداع والثقافة، وكان أهم ما يميّزهم هو مناقشتهم لجديد ما يُنشر لأي منهم، فما أن ينشر أحدهم قصة قصيرة، أو قصيدة، أو مقالة أدبية، حتى تنعقد أكثر من جلسة ومناقشة لتلك القصة أو القصيدة، ومؤكد أن التفاعل يزداد ويتسع إذا تم النشر عبر كتاب، سواء كان مجموعة قصصية أو رواية. ذاك الطقس الأجمل كان بمنزلة مرآة عاكسة ومحفِّزة يرى من خلالها المبدع خطو قلمه، ويواجه نقاشاً منفتحاً ونقداً موضوعياً تجاه ما يكتب، يمكّنه من تحسين مستواه من جهة، ويطلعه من جهة أخرى على الكيفية التي يفكر ويقرأ بها الآخر ما يسطّره فكره!

دارت الحياة دورتها، وغيّب دولاب الموت بعض أولئك الأصدقاء الأحب، واقتلع بلدوزر ثورة المعلومات، وشبكات التواصل الاجتماعي، شجيرات الصداقات الوارفة، وللأسف تفككت وتقلّصت تلك المجاميع الثقافية والفنية الكبيرة، وتقزّمت حتى انتهت إلى جملة على "الواتساب"، أو على موقع "تويتر"، أو صورة على "الانستغرام"، وحتى هذا غدا محكوماً بالشللية، ولسان حاله يقول بوضوح: "شيلني وشيّلك!"، لكن "لو خليت خربت"، يبقى نفر من الأصدقاء على ذهب معدنهم ووصلهم واهتمامهم الذي يُسعد القلب!

Ad

على أثر نشر مقالي الأسبوع الماضي المعنون بـ"أربعاء اللطخة!"، والذي أشرتُ فيه إلى أحداث يوم الأربعاء 6 يناير الجاري باقتحام مبنى "الكابيتول"، والذي برأيي سيكون تاريخاً حاضراً ومثار نقاشات لا تنتهي، ولربما لفترة ليست بالقصيرة، وأن على الولايات المتحدة الأميركية إجراء أكثر من عملية تجميل لإزالة اللطخة التي علقت بوجه ديمقراطيتها! على أثر ذلك المقال، تلقيت أكثر من اتصال ورسالة واتساب، من أصدقاء أفاضل، أكنّ لهم كل المودة والتقدير والاحترام، وقد تباينت آراؤهم حول المقال، لكن ما استوقفني بين تلك الاتصالات، اتصال كريم من أحد رجالات الكويت، الذين كان لهم شأن مشهود بالعمل السياسي في الكويت ومحيطها الخليجي والعربي لعقود، وبنبرة هادئة قال لي: "انتظر الأربعاء، وأقفز لصفحة الثقافة لقراءة مقالك..." وتوقف لثوان قبل أن يضيف: "الصحف الكويتية مليئة بكتاب أفاضل يكتبون في الشأن السياسي والاجتماعي، وليتك تبقى في تميّزك في كتاباتك الثقافية، فقليلٌ عدد أولئك المحسوبين على الكتابة الثقافية ولا شيء غيرها!". شكرته وأبديت له امتناني لاهتمامه بما أكتب، وشغلني رأيه الكريم، فهناك من يحسبك على مجالك ولا يريد لك إلا أن تبقى في دائرة الثقافة، سواء كان هذا على شكل كتابات، كالقصة القصيرة أو الرواية، أو الكتاب الفكري البحثي، ما هو مهم أن تبقى بخطوك الذي بدأته على الدرب وعلى الدرب ذاته!

أخذني اتصال ذلك العزيز إلى سنوات البدء، في منتصف السبعينيات، يوم كان الطريق يومئ إليَّ، وكنت أحث الخطو على العطاء ومزيد من العطاء، في القراءة والكتابة، وكيف أن قرابة أربعة عقود ونصف العقد قد انقضت على بدء الرحلة، وأن محطات كثيرة عبرت بي وعبرت بها، لكن الأهم هو انعقاد صلات لا تنفرط بينك وبين الإبداع والثقافة، وهذا ليس بينك وبين نفسك فقط، بل هو بينك وبين من ينتظر حرفاً وكلمة وجملة وكتاباً منك!

نعم يا صديقي، لك الشكر الجزيل والامتنان، فأنت باتصالك الكريم إنما قدمت لي وردة ندية، وقلت لي ضمن مجموعة من المحبين: عرفناك وحسبناك على الثقافة والدرب، فلا يزل بك الخطو، ولا يأخذك صراخ السياسة، ولو أنه بات يعلو على كثير من الأصوات!

نعم أيها الصديق، في زمن شبكات التواصل الاجتماعي، وفي زمن العبث بالصورة البائسة إلى أن تغدو مغرية، وحتى لو تاهت عن أصلها، وفي زمن الحسابات الباهتة، قلةٌ أولئك الذين يواصلون السير على درب الكلمة الحقة والفعل الإبداعي الملتزم، وكم هم بحاجة لمن يربت على أكتافهم ويصيح بهم بصدق روحه: سيروا فتراب الدرب مشرِّف، ونحن على جابني الطريق نرقب مروركم!