عاد توني بلير موقتاً إلى قلب السياسة البريطانية عبر تقديم نصيحة استراتيجية لمات هانكوك حول طريقة توزيع اللقاح، لكن هل تقف طموحات رئيس الوزراء البريطاني السابق عند هذا الحد؟ بعد مرور أكثر من عشر سنوات على تنحيه من منصبه، يقال إنه يخطط لعودة عظيمة "على طريقة ديغول"، إنها مقارنة مناسبة برأي منتقدي بلير، فقد كان ديغول "أب أوروبا" وهو من قاد قوات "فرنسا الحرة" خلال سنوات الحرب في عهد حكومة فيشي، ثم اختفى في عمق الأدغال السياسية بعد عام 1946 قبل أن يعود بكل قوة بعد مرور أكثر من عشر سنوات بقليل، وأصبح في نهاية المطاف رئيس البلاد طوال عشر سنوات، فهل يستطيع بلير إذاً أن يكرر مسيرة ديغول؟

الإرث عامل بالغ الأهمية في عالم السياسة، فقد واجه ديغول أول نهاية سياسية في مسيرته في عام 1946 بسبب خطأ أحمق ارتكبه بنفسه، فهو لم يشأ أن يتوصل إلى حل وسط مع الشيوعيين ففضّل الاستقالة معتبراً نفسه مسؤولاً لا غنى عنه وتوقّع أن يتوسلوا إليه كي يعود بشروطه الخاصة، لكن اعتُبِر ديغول فجأةً جزءاً من الماضي، فهو قاد البلد وحقق النصر في الحرب العالمية الثانية وشعر الناس بالامتنان تجاهه، لكن الشعب كان يبحث في المرحلة اللاحقة عن وجوه جديدة. مع ذلك يعبّر الفرنسيون عن إعجابهم الشديد بشخصية ديغول حتى الآن، بقدر ما يحب البريطانيون ونستون تشرشل رغم تصويتهم لكليمنت أتلي لاستلام رئاسة الحكومة، فقد كان إرث ديغول بين عام 1946 وعودته في عام 1958 يرتكز على تاريخ رجلٍ أنقذ فرنسا وشارك في الإطاحة بالنازيين وأعوانهم الخونة في عهد حكومة فيشي.

Ad

لا يحمل بلير من جهته هذا النوع من الإرث السياسي الإيجابي، فحين يفكر الشعب البريطاني بتوني بلير، لا يذكرون من مسيرته إلا كلمة واحدة: العراق، وهذه الحرب هي إرثه الحقيقي، سواء اعترف بذلك أو لم يفعل، وقد يعتبر البعض الازدراء الذي تعرّض له بلير بعد عام 2007 غير منصف، لكن لا أحد يستطيع إنكار المشاعر السلبية التي يحملها الناس تجاه زعيم "حزب العمال" السابق.

لكن بعد عهد تيريزا ماي، يسهل أن نستنتج أن الناس تعاملوا بقسوة مفرطة مع بلير، حتى أنه قد يكون آخر رئيس وزراء عظيم حتى الآن.

مع ذلك، تختلف آراء الناس حول هذه الشخصية. هل سيسامح الرأي العام البريطاني بلير وينسى مشاعره السلبية تجاهه؟ لن يحصل ذلك! وهل سيتمكن بلير من التخلص من وصمة العراق ويُعتبر مجدداً رئيس الوزراء المحبوب الذي صوّت له البريطانيون في عام 1997؟ لن يحصل ذلك أيضاً.

قد لا يكون هذا الموقف منصفاً، لكنّ التاريخ أصدر حكمه على توني بلير، الذي يطرح إشكالية معينة بالنسبة إلى جميع الأطراف والتكتلات السياسية في الحقبة المعاصرة.

برأي المعسكر المؤيد لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان بلير الشخص الذي تآمر لمحاولة إبقاء البلد داخل الاتحاد، وبرأي الليبراليين، هو ليس مهندس حرب العراق فحسب، بل إنه رئيس الوزراء الذي دمّر جميع الحريات المدنية، وبرأي اليساريين، هو المسؤول الذي خان قِيَمهم وباع "حزب العمال" لمصلحة الأطراف التي تخدم مصالحه. وبرأي اليسار الوسطي، هو السياسي الذي أعلن نفسه منقذاً للوسطية البريطانية منذ بضع سنوات قبل أن ينشئ منظمة تحمل اسمه وتتطرق في معظم الأوقات إلى سياسات الشرق الأوسط، وبالنسبة إلى الناخبين العاديين، يُعتبر بلير سياسياً ينتمي إلى زمن مختلف أو قطعة أثرية من حقبة غابرة.

على عكس عدد كبير من الناس، أنا شخصياً لا أبغض توني بلير ولا أنكر مسيرته الناجحة مالياً بعد عهده في رئاسة الحكومة. يسود في بريطانيا تقليد معروف يدعو رؤساء الحكومات السابقين إلى تمضية المرحلة اللاحقة من حياتهم وهم يلقون خطابات مثالية ومملة ويقومون بالأعمال الخيرية، لكني لا ألوم بلير لأنه اختار مسيرة مختلفة، لكن من المفاجئ ألا يدرك أنه دمّر أي فرصة متبقية لعودته إلى الساحة السياسية بعدما سعى إلى تطوير مسيرته المهنية في آخر عشر سنوات.

بالنسبة إلى شخصٍ اشتهر بذكائه السياسي الفائق، يعجز بلير أحياناً عن استيعاب بعض المسائل الأساسية والبسيطة حول الواقع السياسي، ومن الأفضل أن تكون هذه التوقعات غير الرسمية حول عودة توني بلير الخارقة "على طريقة ديغول" مجرّد تكهنات مغلوطة، وإلا لا يمكن تصوّر الإحراج الذي سيتعرض له!

نيك تايرون - ذا سبكتيتور