تخيلت نفسي وأنا أشاهد "جمهور ترامب" يقتحم مبنى الكابيتول، أنني أمام مشهد مماثل في ساحة النجمة ببيروت أمام مبنى مجلس النواب أو على مدخل مجلس الشعب في القاهرة! إذ لم يختلف "جمهور ترامب" عن الجماهير العربية أو أي جمهور من دول العالم الثالث والذي أزاح رؤساء دول من مناصبهم نتيجة احتقان وفساد وتزوير في الانتخابات!

المشكلة ليست في الديمقراطية كمفهوم وممارسة وحتى في المجتمع الأميركي، المشلكة بالشخص، فخطابات ترامب ومنذ اليوم الأول من نوفمبر 2019، فاضت بتحريض جمهوره، قبل أن يذهب المواطن الأميركي إلى صندوق الاقتراع، فعلى مدى أشهر وهو يشحن هذا الجمهور ويرفع منسوب الكراهية عنده، بل أقدم على خطوات انتقامية تنم عن سقوط مدوّ بالقيم، قام بعزل وزراء في إدارته ومستشارين كبار، وأهان أقرب مساعديه، وأشاع خطاباً مملوءاً بالعنصرية والمغالاة، بحيث جعل "مناصريه" يتماهون معه والسير وراءه، كأنه "قديس"، ولسان حاله يقول سنقلب الطاولة على رأس الجميع إذا تجرأ أحد على إبعادنا عن الرئاسة!

Ad

كان واضحاً أن المسار الذي مشى فيه هو مسار "انتحاري" لا يقيم وزناً للمؤسسات الدستورية الضاربة في أعماق التاريخ الأميركي، فالموضوع يحتاج العودة قليلاً إلى سنوات حكمه وإلى شهادات أقرب الناس إليه وإلى الكتب التي صدرت عنه.. حتى تكون الصورة مكتملة الجوانب، فهؤلاء نجحوا في تشريحه والدخول إلى عوالمه وثقافته، وكانوا بالفعل قادرين على وضعه في الإطار المناسب، وكشف الجوانب المظلمة والمخفية من شخصيته، والوقوف على مجرى الأحداث التي صنعت أفكاره.

ماذا فعل ترامب ليلة "الأربعاء الأسود" كما أطلقوا عليها، وقف مخاطباً جمهوره "سأسير معكم، وسنذهب معاً إلى الكونغرس ليسمعوا صوتكم"! كان هذا نداءه إلى "جماعته" ومنهم فرقة "الأولاد الفخورون" المتعصبة للعرق الأبيض ومن دعاة حمل السلاح! وهؤلاء لم يخيبوا أمله، بل لبوا النداء فكانت التحية بأجمل منها، اقتحموا، كسّروا، خرّبوا، أكبر وأهم رمز للمؤسسة الديمقراطية في تاريخ أميركا، وهو مبنى الكابيتول.

حصيلة "الغزوة " وهو العنوان الذي اختارته "الجريدة" في صفحتها الأولى أوقعت أربعة قتلى وعشرات الجرحى، وهذا الرقم قد يكون مسألة فرعية بنظر البعض! فترامب وجمهوره كأنهما "طبعة منقحة" لمشهد عربي مازال ماثلاً أمامنا، فالتذابح على الكرسي، وبأي ثمن لم يعد منتجاً عربياً خالصاً، بل هناك من يشاركنا فرحتنا هذه واللحاق بنا!

استماتة "الرئيس المنتهية صلاحيته" على القول بأنه لم يخسر ولم يهزم وأنه "الرئيس الشرعي"، يؤسس لمرحلة قادمة، بعد تسليمه مرغماً بفوز بايدن وإعلانه عدم المشاركة بتنصيبه! هذا "الجمهور" الذي منحه أصواته سيبقى وفياً له يقاتل من أجله، وهو ما يمنحه الأمل في الاستمرار في عمله السياسي، من خلال الحزب الذي انقسم عليه وبات شبه معزول! ولن يكون الجدل مفيداً في من يحق له أن يمنح صفة "الشرعية" طالما أن الكونغرس حسمها، لكن أفلام ترامب التي أمتعنا بها تحتاج إلى إخراج هوليودي كهذا.

عندنا جرت حروب وثورات وانقلابات بحجة من يملك أو يمثل "الشرعية" في مصر بين السيسي ومرسي وفي لبنان بين ميشال عون وسليم الحص عام 1990 وفي اليمن بين حكومة هادي و"أعدائه" والقائمة تطول وتتوالى، لكن ما هو جدير بالاحترام أن الاحتكام إلى المؤسسة الدستورية العريقة في أميركا كان هو الفيصل، في حين كانت مؤسساتنا الدستورية في العالم العربي مجرد واجهات وديكورات سرعان ما تتهاوى تحت وقع من هو الأقوى على الأرض وفي الخارج!

لقد أوصل رسالة واضحة لا تقبل القسمة، أظهر لنا "الوجه الآخر" والحقيقي لرجل تسبب في إهانات مؤذية للنظام الديمقراطي والذي كان لعقود يرفع راية الدفاع عن هذا النظام وعلى مستوى العالم!

"الجمهور" الذي شاهدناه نسخة عن شخصية ترامب، بعيداً عن التزييف، فقد ساهم في صنعه وصنع أدواته التي أتقنها جيدا وبالأخص "تويتر" وسيلته المفضلة التي استغلها جيداً، ومحطته التلفزيونية "فوكس نيوز" بعد أن أبعد عنه الجسم الحقيقي للإعلام محتقراً إياه وجاعلاً منه عدواً وهمياً.

الصورة "بتتكلم عربي" وليس فيها ما يثير الاستغراب، المسألة ببساطة، هذا الجمهور من نتاج هذا الرئيس، فعبارة "أنتم متميزون" التي خاطبهم بها في الساعات الحاسمة قبل الإعلان الرسمي لفوز بايدن تشي بشيء واحد أن الديمقراطية الأميركية تحمل النقيضين والوجهين.

حمزة عليان