لقد أتاح له العمل في تلك الدولة سنين طويلة أن يقترب د. فخري شهاب من الشخصية اليابانية التي استهوته نظراً لما لمس فيها من "إخلاص في العمل والإنتاج"، ومن هنا جاءت هذه الحصيلة بكتاب "اليابان كما عرفتها"، الصادر عن دار قرطاس للنشر، الذي يسجل فيه شكره لمؤسسة الكويت للتقدم العلمي ود. أماني البداح ولصديقيه، عبدالمحسن تقي مظفر ود. إقبال العثيمين لمساعدته بأن يخرج الكتاب إلى النور.

يأخذ على عاتقه كشف الغموض عن تفاصيل أحداث ما تعرّضت إليه اليابان بعد قصفها بالنووي واستسلامها دون قيد أو شرط، والموقف الذي وقفته في الحرب العالمية الثانية، وأدى إلى انكسارها، وهو ما غاب عن الصحافة ووسائل الإعلام العربية كما يرى.

Ad

الدافع الأكبر لهذا الإصدار تذكير أمَّته بما حصل في اليابان، محاولة منه لتنبيه القادة والمفكرين العرب والجيل الجديد، بعدما استشعر بحالة اليأس التي تمرّ بها وقنوطها المخيف... وكيف عقدت هذه الدولة العزم لتصبح "دولة عظمى" تستدعي الإعجاب والإكبار.

بين العرب واليابانيين

واضطلاعه بتأليف الكتاب مردّه، ثانية، خلو المكتبة العربية من كتاب جدّي ينتفع به، وهو من هذا المنطلق يعرض تجربة اليابان بغرض التوجه إلى السياسيين والمفكرين بإعادة النظر بأساليب عملهم واستراتيجيتهم وفي وسائلهم لبلوغ "أغراضنا القومية".

يتجاوز مسألة الفروق بين الشرق العربي واليابان في تشخيص حالة التخلف التي تعانيها المجتمعات العربية، فهناك أسباب أخرى أعمق وأشد من أن تبررها "وحدة العرق" أو "حجم السكان" أو "نوعية الكيان السياسي"، ولذلك حريّ بالعرب التعرف على وجوه التشابه وتأمّلها.

يشترك العرب واليابانيون بأنهما جابها الاستعمار الغربي، وهما لا يمتلكان سوى تكنولوجيا العصور الوسطى، ويتشابهان بالحروب الداخلية التي استنزفت قواهما الاقتصادية، وإن كانا يختلفان بالنتائج.

الغرض من تقديم الكتاب كما يرد في مقدمته "إعطاء صورة لمحاولات أمة شرقية متخلفة نجحت في التعامل مع الغرب واللحاق به والانتصار عليه، مستخدمة في ذلك سبلا لم يكن للغرب من حيلة في رفضها".

تجربة مريرة

يعيد تأكيد أن غرضه الرئيسي عرض الأحداث التي غيّرت المجتمع الياباني وجعلته يضاهي الغرب علما وبأسا، وإحاطة القارئ العربي بخلفيات تلك الأحداث كي تكتمل الصورة التي يود أن يرسمها.

لقد أتيح للدكتور فخري شهاب التعرف على طرف مما مرت به اليابان في الساعات الفاصلة بين القصف النووي وقبول الحكومة بيان "بوتسدام" المشهور وتسليمها المهين بنصه المعلن، وقد كانت تجربة مريرة لم يعرف اليابانيون لها مثيلا في تاريخهم، غير أن الحكمة والرؤية أوحتا لهم سبيلا للانتفاع بأحداث نكبتهم لبناء مستقبل جديد.

13 فصلاً

ثلاثة عشر فصلاً أغنى فيها الكتاب بسردياته التاريخية المقرونة بعلم وافر وسعة اطلاع، جعلت منه مؤرخاً ومفكراً وصاحب رؤية فلسفية.

يبدأ بالتعريف عن الجغرافية اليابانية والخلفية الحضارية وسمات المجتمع الياباني وسجاياه، ويتوقف عند الشخصية اليابانية ليرسمها بصورة غاية في الشمولية، ثم يتطرق إلى الدين والمسيحية، ويدخل في باب التربية والتعليم مسلطا الضوء على تلك النهضة التعليمية التي غيّرت وجه اليابان ونقلته في مجتمع مكسور ومحطم إلى مجتمع متمدن.

الساموراي وقصة «الشوكن»

بعد الحديث عن "الانفتاح الحذر على الغرب" وتخصيصه فصلا كاملا عنه، ينتقل إلى عهد "توكو كاوا" وماضيه من حقائق تتصل بـ "الشوكن" الذي يحكم اليابان والعلاقة مع الامبراطور، ثم يستكمل استعراض تلك الحقبة برسم الهرم الاجتماعي في عهد "توكو كاوا"، وأهم ما فيه قصة "الساموراي" ونشأتهم وأخلاقهم، ويأتي من بعدهم الفلاحون والتجار والسوقة.

في الفصل الخامس، يروي قصة "الثورة على الشوكن"، وصولا إلى عودة الامبراطور، وفي كل باب أو عنوان، يجد القارئ نفسه أمام ثورة من المعلومات تعطيه صورة حقيقية وكاملة عن تلك المحطات التي عاشتها اليابان.

ربما احتاج القارئ إلى مزيد من التمعن والتفحص عند قراءته للكتاب وإلمامه، على سبيل المثال بتاريخ "الشوكن" وظهوره على مسرح الأحداث واستيلائه الفعلي على الحكم، وما جرى في الفترة التي سبقت دخول اليابان العصر الحديث.

و"الشوكن" منصب عسكري رفيع، خلق لتنظيم حملة عسكرية خصصت لقمع اضطرابات أمنية متكررة كانت ترتكبها قبيلة وحشية تعرف بـ "الإيزو" في شمال البلاد، إلا أنه ما لبث أن تحوّل المنصب المؤقت إلى منصب وراثي دائم لا يقتصر على الشؤون العسكرية وحدها، بل تعداها فشمل الشؤون المدنية، واستقر ذلك العرف إلى عام 1685 عندما تولى المنصب الزعيم "مينا موتو"، ويفسر الباحثون ذلك التوسع في سلطان "الشوكن"، بسبب انغماس الامبراطور والنبلاء بالترف وإهمالهم شؤون الحكم.

استمر ذلك الوضع حتى أصبح "الشوكن" حاكم اليابان الفعلي والامبراطور الحاكم الرمزي الذي تستمد الشرعية منه، حتى عام 1867 عندما اضطر "الشوكن" الخامس عشر إلى الاستقالة، فاستأنف الامبراطور ممارسة سلطاته الشرعية واستعادة مركزه التقليدي في المجتمع.

و"الشوكن"، كما يشرح د. شهاب، هو الحاكم العسكري الأعلى في اليابان، بعد استتباب حكمه في 1603 حكم البلاد بواسطة طبقة محاربة عرفت بـ "بوشي"، وشغل المنصب قادة تحدروا من سلالات ثلاث، كانت سلالة الـ "توكو كاوا" أطولها مدى في البقاء بالحكم وآخرها أيضاً.

ما هو جدير بالإشارة إليه أن الكتاب نتاج معرفة وقراءات للمؤلف، أما المصادر التي اعتمد عليها، فهي كتب صدرت باللغة الإنكليزية، باستثناء كتاب واحد مترجم إلى العربية، وصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب عام 1977 بعنوان "اليابانيون".

عصارة تجربة عايشها الكاتب، أفرغها في 250 صفحة مليئة بالعبر والدروس وفوق ذلك، بالسرد التاريخي والقدرة على تنظيم وترتيب الأفكار والإبداع في العرض والتحليل لرجل بلغ المئة عام.

حمزة عليان