وفق الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في توظيف الرموز الدينية للإبانة عن حجم الإجحاف الذي لحق بشعبه والتواطؤ والتطفل على معاناته، وهنا تكفي الإشارة إلى قصيدة "أنا يوسف يا أبي" لفهم تمَكُّنه من تطويع المعطيات التراثية في بناء عالمه الشعري وبذلك يتمدد المعجم الدلالي للشاعر، طبعا صاحب "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" من الشعراء الذين شهدت نصوصهم تحولات ومنعرجات لافتة على مستوى بناء القصيدة والنضج الفكري، وذلك يعني أنه أبعد ما يكون عن النمطية، فأثره الشعري بصفة عامة لا يخلو من المراوغة والنحت لصياغات جديدة، إذ يقتفي المتابع في دواوينه الأخيرة مسلكا فلسفيا، ويثير الشاعر أسئلة بشأن ما يقع في صميم حياة الإنسان وهواجسه الفردية، دون أن يغادر دهاليز السر، إذ ترى ثيمات بعض قصائده في ديوان "لا تعتذر عما فعلت" تدور حول الحلم وما يعنيه بالنسبة للإنسان والشكل الذي تتخذه الأشياء داخل أثير الحلم.

Ad

ماهية الحلم

ينفتح سؤاله الشعري على ماهية الحلم أيضا وبذلك تصبح المقاربة الشعرية أعمق من النظريات السيكولوجية بشأن الحلم وهو ليس عبارة عن حراك المكبوتات المختزنة في اللاوعي، بل قد يكون إمكانية للانزياح نحو فضاء متحرر من كل ما يخنق الأنفاس النزقة. إذ اللافت في النص الموسوم بجملة استفهامية مضمرة دلالة التعجب "الحلم ما هو؟" الصور المتولدة من فن التشبيه الناضح بشحنة فانتازية "الحلم ما هو؟ ما هو اللاشيء هذا عابر الزمن، البهي كنجمة في أول الحب الشهي كصورة امرأة تدلك صدرها بالشمس؟ ما هو، لا أكاد أراه حتى يختفي في الأمس. هكذا يتناوب الحلم بين تحويلات حسية من خلال التشبيه ولا محسوسيته الخاطفة.

الاستفهام والطلب

لا ينصرف الشاعر في النص التالي "الآن، إذ تصحو تذكر" عن أجواء الحلم إذ تتصاعد الانفعالات أكثر بفعل توظيف صيغة الاستفهام والطلب في بنية الجملة الشعرية مع ما يتخللها من مقطع يلمح إلى توهج العالم الطيفي، يقول صاحب جدارية "كل ما يتحقق لا يعود حلما... الشاعر والفنان يختنق خارج الحلم"، أكثر من ذلك يرحل درويش إلى "الظل" واصفا طبيعته الحيادية حيث يسرد قصة لعبته مع هذا الشكل الرمادي، فأراد أن يتبعه لكي يقع الشبيه على الشبيه، فلا يرى أحدهما الآخر، وتقع في قصيدة "تنسى كأنك لم تكن" على شعرية النسيان والومضة.

يذكر أن النصوص المشار إليها آنفا تنبض بحركية ما يفعل التمثيل البصري في مساحاتها.

مسلة شعرية

لا يسرد الشاعر سيرته خارج نصوصه الشعرية، وما يقوله المخرج الإيطالي فيللني عن أفلامه "إن كنت سأصنع فيلما حول حياة شخص ما، فهي بالمحصلة ستكون حياتي" ينسحب على علاقة معظم المبدعين مع موضوع أعمالهم لاسيما الشعراء الذين يتخذون من شخصيات أيقونية قناعا أو رمزا معبرا عن ذواتهم العميقة، ما قدمه محمود درويش في قصيدته الشهيرة "لاعب النرد" عبارة عن سيرة مسرودة بالضمير الأول لكن من المعلوم أن الإطناب لا يخدم التدوينة الشعرية لذا تتوارد تلميحات فائضة بقوة العاطفة، وزخم تعبيري دافق في سياق هذه المسلة الشعرية لعل مفردة العنوان وسيولة مداليها تجدر بالتأمل قبل العبور نحو تلافيف القصيدة. لماذا لاعب النرد؟ وما علاقة العنوان بما عاشه الشاعر من التجارب المتنوعة؟ وما إن يتم التطواف في بيئة النص حتى نلفي أنفسنا أمام تكرار هذه المفردة، ما يعني أن اللعبة هي الثيمة الأساسية في وحدات القصيدة.

منطق المصادفة

بالطبع تحيلك عبارة لعبة النرد إلى هراقلطيس الذي نقل عنه كلامه "أن الزمن طفل يلعب النرد" إذ يؤسس درويش فلسفته للحياة على مفهوم اللعبة التي تتحرك ضمن احتمالات الربح والخسارة "أنا لاعب النرد أربح حينا وأخسر حينا، أنا مثلكم أو أقل قليلا" وفي هذا الإطار تتقاطع مفردة المصادفة في دلالتها الإيحائية مع اللعبة، وإذا كانت اللعبة لن تقوم إلا بوجود الطرفين فإن المصادفة لها دور أساسي في حيثياتها "ولدت بلا زفة وبلا قابلة، وسميت باسمي مصادفة، وانتميت إلى عائلة مصادفة، وورثت ملامحها والصفات وأمراضها" كما أن الانتماء الوجودي والمنشأ متربط بمنطق المصادفة كذلك الحب يولد بفعل المصادفة كأن محمود درويش يؤمن بما قاله سارتر بأن كل شيء يحدث بمنطق المصادفة وليس نتيجة للضرورة "كان يمكن ألا أحب الفتاة التي سألتني: كم الساعة الآن؟ لو لم أكن في طريقي إلى السينما..." لا بأس من الإشارة بأن أجمل أغاني عبدالحليم حافظ عنوانها "صدفة".

قوة الهشاشة

لا شيء حقيقيا سوى المصادفة على حد قول «بول أوستر» وطالما تبدو الحياة سلسلة من المصادفات فذلك يؤكد هشاشة لحظاتها بما فيها لحظة الحب التي لا تنمو إلا على هشاشة القلب وخفة التعبير، "من سوء حظي أني نجوت مرارا من الموت حبا، ومن حسن حظي أني مازلت هشا لأدخل في التجربة" بناء على هذه المعطيات هل يمكن اعتبار محمود درويش متفائلا أو متشائما؟ في الواقع يفكر الشاعر فوق ثنائية التفاؤل والتشاؤم، وهو لا يشغله سوى البحث عن البعد الجمالي في المشهد " حين تبدو السماء رمادية، وأرى وردة نتأت فجأة من شقوق جدار لا أقول السماء رمادية بل أطيل التفرس في وردة وأقول لها: يا لها من النهار، وما يطلبه الشاعر هو تحقيق الخفة وذلك بالتخلص من سيناريو الانتظار الرتيب، يقول في نصه المعنون "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" ماذا أريد من الغد؟ مادام لي حاضر يافع أستطيع زيارة نفسي"... تزداد فرصة التمتع بالحياة برأي محمود درويش إذا عاش الإنسان بحكمة المحكوم بالإعدام، هنا لا مجال للسأم المزمن، هل يفهم من ذلك أن الشاعر أصبح عدميا؟ يمكن القول إن محمود درويش يميل إلى عدمية مرحة إذ كلما توفرت إمكانية للحب يتم إرجاء موعد الانتحار "بوسعنا أن نحب وفي وسعنا أن نتخيل أنا نحب لكي نرجئ الانتحار، إذا كان لابد منه" زد على ما مر أن الحب فرصة للتخفف من ثقل الحقيقة باجتراح استعارة مع أنها عابرة لكن أكثر عمقا من حقائق الحياة "أضمك، حتى أعود إلى عدمي، زائرا زائلا. لا حياة ولا موت في ما أحس به طائرا عابرا ما وراء الطبيعة حين أضمك".

تخلو فرص الحياة من التشويق وتتحول إلى حطام الخيبة أو نشوة سرعان ما تخلف الملل إذا لم يتم التعامل معها بمنطق اللعبة... هذا ما تستخلصه من تجربة محمود درويش.

• كه يلان محمد