تقسّمنا حتى الفتات، فماذا بعد؟ فبينما العالم يلملم بعضه بقينا نحن نفتت المفتت، ونتحول إلى التناهي في الصغر، ربما ليس حجما جغرافيا بل حجما على خريطة العالم المتحول والمسموع والقادر على أن يضع مطالبه ورغباته وربما حتى أجنداته.

وما الجديد طالما بقينا مقسمين أو ربما في الواقع نحن كذلك، في حين التزييف الذي أتقناه أعطى انطباعاً بوحدة ومحبة وتفاهم ووفاء لماض طويل. كثيرون اعتادوا هذا الواقع أو على أقل تقدير كان مكشوفا لهم ولم يعيشوا في وهم أحلام الإخوة والمحبة والروابط!

Ad

انهارت كل المفردات أمام ذاك السقوط المدوي، كحجر الشطرنج وقعوا أم وقعنا واحداً خلف الآخر! وما هي إلا لحظات حتى وصل السقوط إلى كل بيت وكل عائلة وكل شلة وكل شركة وكل صداقة، وحدها الصفقات بقيت صامدة لا تنكسر ولا تنحني ولا تلين، فهي لم تضع نفسها في أجواء الكلمات المشبعة بالعواطف، حتى عندما توارت خلفها كان الموقف واضحاً جداً، إنها الصفقة والمصالح الشخصية جداً، وليست حتى مصالح المجموعة أو ما هو أوسع منها.

كل صور السقوط مرت سريعا حتى ازدحمت بها المساحات المفرغة من أدمغتنا، فهي مثل الأوبئة عليك أو علينا عزلها من ذهننا حتى لا تلوث الأماكن الجميلة الأخرى، تلك التي نخزن فيها حميمية اللحظة وجمالياتها، تلك المغمسة بمحبة قلبية خالصة غير ملونة ولا ملوثة ولا حتى "مفزلكة" بتعابير رنانة تحولت إلى موضة، فهناك في اللغة موضة أيضاً، نعم هكذا يحاولون إفهامنا أن "كلامنا قديم جداً" أو أنه "مش فاشن"!

تلك الصور التي أقل ما يقال عنها أنها مستفزة لمشاعر كثير من الصامتين غصباً أو كرهاً أو خوفاً أو حتى ترفعاً عن النزول لمثل هذه المستويات من الانحطاط، تطاردنا الصور وهم مستمرون في محاولة حصارنا في إطارها، مثلهم مثل أولئك الذين حملوا السيوف وقطعوا الرقاب على مرأى من محطات التلفزة الحداثية بكاميرات حديثة ومتطورة جداً، هناك خدم التطور التقني كل الفكر المتحجر والمتطرف، وهنا أيضا تخدم التكنولوجيا المروجين لهذه المرحلة. هي كالقاتل الذي لا يكتفي بالذبح بل يريد أن يحوله إلى مادة للتفاخر أو التخويف، أو في محاولة ساذجة لغسل الأدمغة. مع فنجان القهوة الصباحي تزدحم الصور، وكذلك مع آخر كوب من شراب منعش في ليل تغلفه لسعة برد جميلة بعد قحط صيف "مكورن" أي صيف كورونا.

كبر بعضنا على أن القائد، الرئيس، الزعيم، الأمير، الملك أو حتى رئيس المؤسسة أو الشركة هو الأكثر قدرة ومعرفة على اتخاذ القرار، فهو "يعرف أكثر" والمعرفة قوة حقا عندما تكون معرفة علمية مبنية على قرار متقن ومدروس، أما المعرفة التي تديرها الأمزجة والمصالح فهي ليست معرفة إنما قرار فردي فقط، رغم أنهم مجموعة تجلس خلف مائدة طويلة وضعت عليها العصائر والماء بغاز أو دونه، والقهوة بأنواعها والشاي بمذاقاته وعطوراته.. إذاً فالقرار ليس فردياً بل جماعي "ديمقراطي" لأنهم يعرفون أكثر بل هم قادرون على الدفاع عن مصالحك أيها الفرد أكثر منك!!

ما الجديد في كل هذا الكلام المكرر؟ إن المعادلة لم تعد للمجموع، بل أصبحت بين الأصدقاء والأفراد وبين العائلات والأصحاب والجمعيات الأهلية والخيرية والريعية، و... و... كلها انتقلت لها العدوى، كلها مصابة بالداء نفسه، تشاهد هذا السقوط فتتصور أنك تأكل "الفوشار" أو كما يسميه أهلنا في الخليج "النفيش"، في سينما بمدينتك تعرض فيلماً أميركياً طويلاً مع الاعتذار للعبقري زياد الرحباني ومسرحيته "فيلم أميركي طويل".

يبدأ التساقط من الرأس ثم تدريجيا يصل إلى شلتك، منزلك، زملائك المخلصين أو كانوا مخلصين، جمعيتك وأعضائها المحبين لك أو كانوا كذلك، مجتمعك المحلي، أو أهل حيك "فريجك"، من هنا تبدأ حكاية الانهيار التي قرأناها في كتب التاريخ، بل بعضها تاريخنا القريب-البعيد! صديقات وأصدقاء لا يتحملون بعضهم أو بعضهن رغم أنهم ونحن مثلهم نردد تلك العبارة "الخلاف لا يفسد للود قضية".

لقد أفسد الخلاف الود والعشرة وحتى الحب! لم تعد هناك مساحات إلا إلى كثير من الشك الذي تسلل إلى القلوب، بعضهم يسميه نظرية المؤامرة، أتصور ألا مؤامرة هناك ولا حاجة لها ما دمنا نحن كما نحن، فحتى صناع نظريات المؤامرة تحولوا "على المعاش"، أي تقاعدوا بعد أن اكتشفوا ألا حاجة لنظرياتهم معنا!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية

د. خولة مطر