اخترت أن أصف الرئيس (فاليري جيسكار ديستان)، والذي غادر عالم الأحياء في 3 ديسمبر، عن عمر 94 عاما، بالرئيس الأوروبي لأنه تميز بدور مهم وأساس في بدايات تشيد ما يُعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي.

ولعلي أبدأ بالحديث عن الرئيس الفرنسي الذي تم انتخابه عام 1974، وكان أصغر رئيس يُنتخب في عهد الجمهورية الخامسة وعمره آنذاك 47 عاما، تم تسلمه لدفة الحكم (وكان من أقواله المأثورة: أنا من يتحكم بدفة الحكم)، بعد أن حكمها مؤسس الجمهورية الخامسة الجنرال شارل ديغول (1958-1969)، وبعده جورج بومبيدو (1969-1974)، ويُعّد ديستان من رعيل الرؤساء الذين عاصروا الحرب العالمية الثانية، ومن بينهم بالإضافة للرئيسين السابقين، فرانسوا ميتران (1981-1995)، وجاك شيراك (1995-2007) الذي رحل العام الفائت.

Ad

أراد ديستان كرئيس شاب أن يقوم بتحديث مختلف جوانب الحياة الفرنسية: اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وكمثال على هذا الجانب الأخير: موافقته على إكمال المشروع الذي أطلقه سلفه جورج بومبيدو بتأسيس مركز ثقافي فني يعكس آخر التطورات الفنية الحديثة. ففي إحدى المقابلات التي أجريت مع زوجة بومبيدو توجهت بالشكر للرئيس ديستان على موافقته بإكمال هذا المشروع بعد وفاة زوجها، في الوقت الذي كان يمكن أن يأمر فيه بالتوقف عن تنفيذه، لكن المشروع استمر وخرج من الأرض مركز جورج بومبيدو في باريس والذي زارها وزار المركز سيلحظ بوضوح حداثة هذا المركز وتميزه عمرانيا وثقافيا وفنيا، ومما يُذكر في هذا المجال أن الرئيس الفرنسي ميتران اختار، وفي أثناء الانتخابات البرلمانية لعام 1986، أن يتم إطلاق اسم الجنرال ديغول على حاملة الطائرات الفرنسية ذات الدفع النووي البحري، علما أن ميتران ترشح عدة مرات لرئاسة الجمهورية الفرنسية ضد الجنرال ديغول وخسر أمامه عدة مرات، ولكن ذلك لم يحل دون الوفاء له ولخدماته لفرنسا، فقرر أن تحمل حاملة الطائرات الفرنسية النووية الوحيدة هذه اسم رئيس مؤسس الجمهورية الخامسة، وأول من بدأ بالمقاومة ضد الاحتلال النازي لفرنسا.

عرفت فرنسا في عهد ديستان نتائج أول صدمة بترولية عام 1973، ونتائج ثاني صدمة بترولية عام 1979، مما أثر على المشاريع الاقتصادية التي كان يخطط لها هذا الرئيس والذي بدأ حياته المهنية بوظيفة مفتش مالي، ثم تمت تسميته سكرتير دولة للمالية والشؤون الاقتصادية في عهد الجنرال ديغول، وكان من المعارضين لفكرة الاستفتاء التي طرحها ديغول عام 1969 والتي أسفرت عن مغادرته للحكم في العام نفسه، وهو الذي كلف الاقتصادي المعروف (ريمون بار) برئاسة الوزراء في آخر أيامه في الحكم، ولم يكن بار معروفا للفرنسيين وعندما سأله أحد الصحافيين عنه كان رد ديستان: ريمون بار أفضل رجل اقتصاد فرنسي حاليا.

أحدث ديستان، على الصعيد الاجتماعي، منصب وزيرة دولة لشؤون المرأة وأوكله إلى الصحافية الفرنسية المعروفة (فرانسواز جيرو)، كما تم اختيارها لاحقا وزيرة للثقافة في عهده أيضا، وتم في أيامه اعتماد قانون يسمح بالطلاق بالتراضي بين الطرفين، وقانون آخر تحت إشراف وزيرة الصحة وقتها (سيمون فيل)، يسمح بالإجهاض، واعتماد قانون لصالح المعاقين.

ولعل من الجوانب الاجتماعية والإنسانية أيضا قبول الرئيس ديستان وزوجته دعوة عشاء سنويا عند إحدى العائلات الفرنسية، وأذكر بهذه المناسبة أن مدرسة اللغة الفرنسية، وكنت في الأشهر الأولى لتعلمي هذه اللغة التي لم أكن أتقنها حين وصلت لفرنسا عام 1978، عرضت علينا في الصف عدة صور لمظاهر اجتماعية فرنسية، وطلبت منا أن نختار صورة نعلق عليها بعد أن أوضحت لنا ما تعرضه كل صورة، وكان من بين هذه الصورة صور الرئيس الفرنسي وزوجته على العشاء عند عائلة فرنسية رب الأسرة رجل إطفاء وزوجته ربة منزل، واخترت أنا هذه الصورة، وعندما سألتني عن السبب أجبت بلغة فرنسية ركيكة وضعيفة مستعينا أحيانا ببعض الكلمات بالإنكليزية، بأنني فوجئت بهذه المبادرة التي أعتبرها متميزة من رئيس الجمهورية وزوجته، وهي تقرب المسافات بينهما وبين أفراد الشعب الفرنسي العاديين، وتدل على تواضعهما ورغبتهما بالاستماع لتفاصيل حياة أشخاص عاديين.

وكما كتبت في البداية، اخترت أن أتحدث عن ديستان الأوروبي الذي كان من أشد المدافعين عن الوحدة الأوروبية، وبدأ في مسيرته كرئيس فرنسي بالدفاع عن اتفاقية روما لعام 1957 والتي تُعّد إحدى دعائم الاتحاد الأوروبي اليوم، وكان متحفظا على قبول أعضاء جدد في النادي الأوروبي، محبذا تدعيم المؤسسات الأوروبية قبلها لنضمن حسن اندماج الدول الجديدة، والكل يذكر علاقته الوثيقة بالسياسي الألماني (هلموت شميت) الذي شغل منصب المستشار الألماني أعوام 1974-1982. لقد شكل ديستان مع شميت أول ثنائي فرنسي-ألماني، حيث وضعا سوية أسس النظام المالي الأوروبي، وأحدثا منصب المجلس الأوروبي، وقررا، وهذا أمر مهم وديمقراطي جدا، أن تتم انتخابات البرلمان الأوروبي بشكل مباشر من قبل المواطنين الذين يختارون مباشرة ممثليهم في هذه المؤسسة التشريعية الأوروبية. وكذلك تكرار مشهد الثنائي الفرنسي الألماني مع الرئيس فرانسوا ميتران والمستشار الألماني (هلموت كول) (1982-1998)، أما المستشارة الألمانية الحالية (آنجيلا ميركل) فقد عاصرت ولا تزال أربعة رؤساء فرنسيين: جاك شيراك، ونيكولا ساركوزي، وفرانسوا هولاند، وإيمانويل ماكرون، وتبقى بصمات الثنائي الفرنسي-الألماني بارزة وأساسية وضرورية في مسيرة الاتحاد الأوروبي ومنذ بداياتها، ومنذ أن فتح الجنرال ديغول صفحة علاقات جديدة مع الجارة الألمانية في عهد المستشار الألماني (كونراد ايدنهور) (1949-1962).

ستنشغل وسائل الإعلام في فرنسا، وبعض البلدان الأوروبية، وبخاصة في ألمانيا، بخبر وفاة هذا السياسي الفرنسي الذي لم يمنحه الشعب الفرنسي ثقته إلا لفترة رئاسية واحدة لمدة سبع سنوات، ولعل قضية (هدايا الألماس) التي قيل بأنه قبلها، والتي ارتبطت باسم حاكم وإمبراطور إفريقيا الوسطى سابقا (بوكاسا) (1966-1979)، كانت من أحد الأسباب التي أعاقت انتخابه مجددا، ومن ذلك لا ينكر أحد إنجازاته وبخاصة مساهمته في البناء الأوروبي، أما إرثه وسياساته الاقتصادية والمالية فالكثير من المعلقين يرون في الرئيس الفرنسي الحالي الشخص الذي يحذو حذو الرئيس ديستان في العديد من المجالات الاقتصادية والمالية والتي تتصف بالانفتاح الاقتصادي وبالليبرالية. فهل يا ترى هذه هي السياسية الاقتصادية والمالية التي يجب أن تنهجها فرنسا ودول أوروبية أخرى في وقت الأزمات: الصحية، والاجتماعية والبيئة التي نعيشها؟

* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.