في حينا المؤقت الجديد مجموعة من الشباب تأتي في المساءات الصافية وتضع موسيقاها، وتبدأ بالرسم على ذاك الحائط بعد أن دُهن باللون الأبيض، نقاش يدور بين ثلاثة: شابين وشابة، وحوارات تبدو ممتعة لأنهم في كل يوم يضيفون شخصية عربية مهمة من رفاعة الطهطاوي إلى طه حسين إلى نجيب محفوظ وكثيرين غيرهم، ومع كل صورة عبارة شهيرة للشخصية وبينهم جميعا لم تبرز أي صورة لامرأة سوى لها كما هي على غلاف تلك الرواية الأخيرة عنها.

عند صورة مي زيادة يضعون موسيقاهم وعدتهم وعتادهم، كثير من علب الألوان والفرش ودرج حتى يصلوا إلى أعلى الجدار، مثيرة هذه الشلة من الشباب، فهي صغيرة جداً في السن وتبدو خارجة عن نطاق المألوف من هذا الجيل في الاهتمامات بمثل هذه الشخصيات التاريخية، حتى الموسيقى تتحول من أنغام الراب السريع إلى فيروز وزياد، وفي عتمة المساءات الخريفية تبدو هذه الشلة من الشباب "منورة"!

Ad

على مقربة منهم تصطف العربات الفاخرة لزوار تلك المطاعم، ينزل منها كثيرون ممن لا ينتبهون حتما لتلك اللوحات والعبارات والشخصيات والفن، ولا حتى للشباب الجالسين على الرصيف يحتسون بعض مشروب ويدخنون فيما جو النقاش والرسم والإبداع لا يتوقف حتى الساعات المتأخرة من الليل، وعلى نور خافت لبطارية ينقشون ذاك الجدار كل يوم، وهم ليسوا وحيدين في ذلك لكنهم فقط من بعُد عن الرسومات الغاضبة والنقد اللاذع، واتجه ليذكر بتاريخ جميل وعبارات الحكمة.

كثرت الرسومات على الجدران في بيروت منذ الاحتجاجات التي مضى عليها عام كامل، وفي مجملها تعبير عن غضب شديد تجاه النظام ورجال السياسة والوضع المعيشي، وهي في ذلك لا تختلف عن تلك النقوش الجميلة التي زينت شوارع القاهرة المحاذية لميدان التحرير في 2011 وما بعده، وربما أكثرها شهرة هو شارع محمد محمود، حيث عبر كثير من الشابات والشباب عن همومهم وطموحاتهم وأحلامهم التي ما لبثت أن طارت كالعصافير.

كثير من تلك الرسوم هناك وهنا تحولت إلى لوحات فنية رائعة الجمال والإبداع، وفي حين رافقت رسوم الجدران "الغرافيتي" تلك الانتفاضات والاحتجاجات وأصبحت كما هي في كل العالم وسيلة تعبير قوية للجيل الشاب، لم يستطع كثير من "الكبار" استيعابها أو فهمها، بل على العكس، بعضهم قال عنها "شخبطة" وآخرون صوروها بأنها تشويه وتخريب لمدنهم الصامتة، وما هي إلا فترة بسيطة فتمتد يد الأمن لمحوها، ويقول ذاك الفنان الجميل ليتهم يعملون الأمر ذاته في رفع صور تلك الملصقات بوجوه وكلمات مكفهرة وممجوجة.

يعيدك صوت الفتاة بنبرة حماسية إلى شارع المونو في بيروت عند ذاك الجدار ومقابل وجه مي زيادة الحزين، تستمعين لها وهي تحاضر في رفيقيها عن قمع النساء وظلمهن في مجتمعاتنا، وكيف أن مي زيادة هي مثال على ذلك، لافتة هذه الشابة في عمرها هذا إلى رواية واسيني الأعرج عن حياة مي زيادة، وكيف فضح ما لحقها الأقربين قبل البعيدين، مما كان يقال إنهم رجال عشقوا مي، أحدهم لا تبعد صورته عن صورتها على ذاك الجدار، وهو الأديب الكبير الذي تنكر لها عندما أودعها أهلها مصحة عقلية فقط ليحرموها من الإرث، ومثله كان آخرون من زوار لمجلسها الثقافي العامر.

جلست هي على الرصيف وراحت تطلب من زميليها تعديل وجه مي بعد أن محت أمطار الليلة الماضية بعضه، تريدها أكثر وضوحا من جيرانها الذكور على ذاك الجدار، بل ربما أكثر حضورا منهم أو هكذا تخيل للصبية العشرينية، وبعد ساعات حملت هي وهما الألوان والموسيقى ورحلوا ليعود للشارع صمته، في حين الجدار ينطق شعراً وغزلاً وفكراً وإبداعاً.

* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية