لا شك عزيزي القارئ أن تلك الأيام أيام استثنائية، صعبة ومريرة على البعض، ولم يسبق لأحد من جيل العشرين أو الثلاثين أو الأربعين من عُمره أن عاصر أو صادف مثل هذه الأزمة، أزمة وباء كورونا، فضلا عن أبنائنا الطلاب، وبداية نحن هنا لسنا بصدد تصيد أخطاء البعض، أو تعليق المشانق لأحد، وهذا لسببين مهمين: أولهما أنها بالفعل ظروف صعبة، وثانيا أنه لم يحدث من قبل أن عاصرنا وباء تنقلب لأجله حال البلاد والعباد، كل شيء استنفر موارده ومقدراته للمرور بسلام من هذه الأزمة، كل وزارات الدولة وكل القطاعات استنفذت كثيراً من طاقتها ومواردها من أجل الاستمرار في الحياة؛ حياة الدولة.

فهل نحن جاهزون لتجربة التعليم عن بُعد؟ وبمعنى أوضح: هل مجتمعاتنا العربية جاهزة فعلا لثقافة التعليم عن بعد؟

Ad

طالب يفتح تلفازا على قناة تعليمية ليستمع إلى مادة مسجلة، أو يفتح تطبيقا على التابلت أو الكمبيوتر ليستمع لمعلم مادة ما، هل ستراعي تلك المادة المُتلفزة القدرة الاستعابية والفروق الاستعابية بين الطلاب وسرعة الاستجابة للمعلومة؟ أم هل ستعرف تلك المادة أن هناك ثمة من لم يفهم من بعض الطلاب فتعيد له شرح المعلومة بطريقة أخرى؟ وهل سيقوم البرنامج أو التطبيق بدور المُعلم بمعرفة الطلاب من بعضهم وقدرة كل طالب ومدى تركيزه واستيعابه؟

المعلم من نظرة يعرف طلابه، بل يرتبهم في الفصل على حسب استجابتهم، فيدني منه من يحتاج المساعدة دوما، وينأى بالنجيب،

وعينه على كثير الحركة، وعلى من يحتاج لتعديل سلوك، ومن لديه فرط حركة، كل هذا يقوم به المعلم بطريقة أوتوماتيكية ديناميكية دون أن يشعر بها غير أهل الاختصاص، فالمعلم عزيزي القارئ يقضي سنوات من دراسته، يدرس الجانب التربوي والسلوكي للطفل حتى من قبل أن يكون طالبا، منذ أن كان كائنا بيولوجيا إلى أن أصبح كائنا اجتماعيا، يعلم جيدا سيكولوجية الطفل والطالب.

كيف يقوم المُعلم بدوره في التربية قبل التعليم، هناك معلومات يحتاج الطالب إلى من يُقشرها له كحبة الفستق ليتناولها سائغة، ثم كيف سيخفق قلب طالب بضربات مسرعة خوفا من أستاذه الذي كلفه بواجبات مدرسية ولم يفعلها؟

لا يكفي مقال أو اثنان لشرح عملية التعليم المعقدة تلك، التعليم في مفهومه الشامل ليس درجات توضع على ورق عليها ختم مدرسة بأن الطالب ناجح ومنقول للصف التالي، وإن كان مسموحا لي أن أصف التعليم عن بعد في هذه الأيام فسأشبهه بشهر رمضان وعيد الفطر الماضي، للأسف سقط سهواً من عمري دون استشعار حلاوته وإيمانياته، لا تراويح ولا قيام ولا إفطار جماعيا ولا موائد رحمن، حالة من العزلة وصدمة عدم استيعاب اللحظات، وبالطبع لا نريد لأطفالنا أن يمر من عمرهم الأخضر عام أو أثنان دون استشعار شمولية التعليم.

ولا يفوتنا أن نستذكر طرائف حدثت في مؤتمرات دولية أثناء اجتماعات عن بُعد بتقنية الفيديو كونفرانس، ممن تسبب بها أطفالهم عفويا، في مداخلات لأبنائهم أثناء إلقاء كلمتهم.

ختاما، إنها لصعبة على مخيلتي كفرد استيعاب فكرة أن يترجم التعليم في زمن كورونا بهذا الشكل، وعزاؤنا الوحيد أنها طامة كبرى على جميع القطاعات، وإيماني الشديد أن من يجلس على البر دائما سابح ماهر، بخلاف من يتلاطم مع أمواج الأزمة، ويتعامل معها على أرض الواقع، ولا نجلس هنا لننظِّر على البعض، ولكنها شكوى إحساس أن شيئا ما ناقص، فالتعليم في مراحل معينة يكون بالنسبة للطفل ماء القلب ومِلحه، وهي مشاعر خوف في الوقت ذاته بأن يكون التعليم عن بُعد بُعداً عن التعليم.