واصلت المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية إعلانها تحقيق أرباح قياسية لثاني ربع على التوالي، ليصل مجموع أدائها في النصف الأول من العام الحالي الى 12.1 مليار دولار، بنمو يبلغ 362 في المئة عن الفترة نفسها من العام الماضي، وهو الذي وصفته المؤسسة بـ "أفضل أداء استثماري في تاريخها".

ومع أهمية تأكيد أن هذه الأرباح تعتبر مفاجأة بكل المقاييس، خصوصا أنها أتت في فترة تعرضت فيها الاقتصادات العالمية وأسواق الأسهم لهزّة نتيجة لتداعيات أزمة كورونا، بالتوازي مع إعادة هيكلة قطاعات الاستثمار في المؤسسة، فإنه من المهم من زاوية مقابلة التأكد من جودة هذه الأرباح عبر شفافية الإفصاح عن مكونات المحفظة الاستثمارية والاستثمارات التي دعمت تحقيق الأرباح القياسية، خصوصا في ظل اعتراف قيادات في المؤسسة بأن هذه الأرباح يصعب إعادة تحقيقها في النتائج الفصلية المقبلة، فضلا عن أن هناك معلومات في أوساط استثمارية تشير الى أن معظم الأرباح القياسية تحققت نتيجة لارتفاعات في قيم الأصول "غير محققة"، ولم تنتج عن بيع شركات أو تخارج من ملكيات للمحفظة التي تناهز قيمتها 123.8 مليار دولار في نهاية سبتمبر الماضي.

Ad

وإذا كان الإنصاف يقضي بالإشادة بدرجة الشفافية لدى مؤسسة التأمينات، خصوصا العام الحالي في إعلان النتائج الفصلية وحتى في تحديد التوزيع القطاعي لاستثمارات المحفظة (50 في المئة أسهم وسندات و50 في المئة عقار وملكية خاصة وبنية تحتية وبدائل مالية)، فإن الإنصاف ذاته يقضي بأن يكون لعملاء "التأمينات" المشتركين والمتقاعدين من المواطنين، وكذلك المختصين والمحللين الحق في معرفة أوضاع استثماراتهم، لا سيما نسبة المخاطرة في الاستثمارات التي حققت تلك الأرباح القياسية ومدى مواءمة اتخاذ قرار استثماري استراتيجي بخفض نسبة السيولة من 40 إلى 10 في المئة، ثم خفضها بحلول مارس 2021 الى دون الـ 4 في المئة، وسط حالة من عدم اليقين في الأسواق والاقتصادات العالمية، بسبب أزمة كورونا، ولماذا يتم احتساب الودائع مثلا كجزء من السيولة غير المستثمرة، مع أنها تعطي عوائد وإن كانت ضئيلة، لكنها مقبولة مقارنة بمخاطرها؟ ناهيك باستعراض أداء محفظة المؤسسة، مقارنة مع أداء استثمارات صناديق التقاعد الخليجية والعالمية، ومدى انتظام وتيرة الأداء على المديين المتوسط والطويل، فالتأكد من حصافة الاستثمار وآلياته وتنوعه قطاعيا وجغرافيا وتوزع المخاطر فيه أهم حتى من تحقيق الأرباح القوية في فترة استثنائية.

ولا شك في أن مزيداً من الشفافية لدى "التأمينات" في استعراض مكونات المحفظة وأدائها سيرفع من مستوى الثقة بأدائها لدى الرأي العام، بعد أن تعرضت هذه الثقة لهزّة مجتمعية عنيفة في عهد مديرها السابق، بل سيحمي المؤسسة على المدى الطويل من الضغوط الشعبوية التي يمارسها بعض السياسيين، وعندها يمكن أن تقنع الجمهور بمخاطر أوضاع الحساب الإكتواري مثلا، وتواجه أي حملة تطالب بتقليص سنوات التقاعد، أو تعديل سياسات الاستبدال، مسنودة برصيد من الشفافية والمصداقية والثقة لدى المجتمع.

والأهم من ذلك كله أن تعزيز شفافية أي مؤسسة وحوكمتها سيستمران لتكون تقاليد مهنية على المدى الطويل، حتى وإن تغيّر الأشخاص الذين يديرونها في السنوات اللاحقة.

وفي نطاق أكثر شمولا، فإن المطلوب اليوم من مجلس الوزراء أن يجعل سياسات الشفافية والحوكمة أولوية لدى الجهات التابعة، خصوصا تلك التي تدير مليارات الدنانير، فلدينا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ذكريات أليمة من تجاوزات وسرقات وخسائر طالت الصندوق السيادي، وذكريات أخرى أقرب إلى اختلاسات أموال "التأمينات"، والتربح غير المشروع فيها، ولعل ما نشره ديوان المحاسبة أخيرا عن نسب التزام الجهات الحكومية بمعايير الحوكمة يشير الى فجوة عميقة في بعض الجهات من الواجب تلافيها ومعالجتها في أقرب وقت.