تنقسم المجموعة القصصية "فاتحة لصاحب المقام"، للأديب أحمد شلتوت، داخليا، إلى قسمين، يشكل كل منهما مجموعة مستقلة، حيث يضم القسم الأول وعنوانه "مفترق طرق" 20 قصة قصيرة، تميزت بقدرتها على التقاط ورصد التفاصيل الصغيرة، ووضعها تحت مجهر الكاتب الذي يسعى في نصه إلى تثبيت اللحظة، في محاولة لاستخلاص الدلالة المخفية بين طيات الواقع اليومي المزدحم. ويبدو ذلك بوضوح في قصص مثل "مفترق طرق" و"تحقيق الحلم" و"المبخرة والمجمرة"، كما أن شخصيات القصص كلها تفعمها الأشواق ويطحنها الأسى، لكنها تتمسك بالحياة، ويلاحظ القارئ أن قصص القسم الأول من المجموعة تميل نسبيا إلى الطول، وترصد حركة الشخصيات في المكان، وواقعا قاسيا في الغالب، وعجائبيا في بعض الأحيان، فيجنح الكاتب نحو الفانتازيا كما في قصصه "مطاردة" و"تكوين" و"بيت البحارة" و"خبيئة".

ويضعنا القاص، عبر قصص المجموعة في أتون تجربة الواقع، ويطلعنا على ما يثير هموم وشجون شخصياته، من خلال سرده قصصا تتميز بالمأساوية والعمق معا، فيصنع هامشا كبيرا للمفارقة والسخرية، وهكذا نجد أنفسنا أمام وقائع عبثية، وأمام حالات سريالية تحياها شخصيات قصص المجموعة.

Ad

أما القسم الثاني وعنوانه "رؤى" فيشمل 30 قصة قصيرة جدا، تميل إلى التكثيف، وتقدم لقطات بلغة شاعرية يكاد يثبت فيها المكان، ويصبح السرد زمانيا، ويمضي في إيقاع سريع مشكلا عوالم تتمحور غالبا حول مواقف صعبة أو مؤسية، وتواجه الشخصية نفسها في الكثير من الأقاصيص فتكتشف أن "الآخر" هو "الأنا" كما في "الآخر"، وفي قصة "سؤال" تنعكس الذات في المرآة وتواجه نفسها بالسؤال وبالحقائق اليومية الصغيرة التي تكون في المحصلة "أنا" الكاتب والقارئ أو أية "أنا" توضع أمام مرآتها.

وعلى العكس من ذلك، نجد نصوصا أخرى منها أقصوصة "خلاص" يقدم فيها الكاتب نصا مختلفا ينفتح على الخارج بسلاسة وحميمية فتجسد الكلمات موسيقى الطبيعة بطريقة تشبه رقصة الظلال على وسائد من الضوء المتسرب من بين الأغصان، على خلفية متناغمة توحي بثبات الزمان وديمومة اليومي ومحاولة الإنسان العابثة لتغيير مجرى ذلك الزمان، فالخوف هنا لا يبدده إلا الموت كما تقول القصة.

وتسبر النصوص أعماق الإنسان، وتحرض النصوص القصيرة جدا على مثل تلك المواجهة كنوع من الصدمة اللازمة لتحدي الرتابة والوحدة، ويقوم الكاتب من خلالها بحفر عميق في الذات البشرية، مكتوب بلغة صافية وزاخرة بالصور والتفاصيل الدقيقة، على الرغم من قصرها الشديد.

وفي العديد من قصص قسمي المجموعة يعزف أحمد رجب شلتوت على تيمة الموت من دون التورط في الهم الذي قد يضيع على كاميرا السرد ملامح اللقطات وظلالها الفريدة وقت احتضار الطيبين الأطهار كما في قصة "عن روحها التي تسربت خلسة"، وفي نصوص أخرى منها "اثنان"، و"خلاص".

ومن فضاءات المجموعة نقرأ تحت عنوان "انتظار": لم يستقر العصفور في وقفته. تابعت تقافزه المستمر، وتبديله للساق الحاملة للجسد النحيل. عجبت لقدرة رقبته على التلفت المستمر يمنة ويسرة، لم تسكن لحظة.

يتأهب للطيران، يشرع جناحيه، كأنه يجربهما قبل الانطلاق، يتراجع، يخفضهما، يطويهما، ينكص عائدا للتلفت والوقوف على ساق واحدة يبدلها كل ثانيتين، ولما يمل يشرع في المشي فوق إفريز الشرفة، يخطو بتؤدة من حافة السور لمنتصفه ثم يعاود الوقوف، كأنه ينتظر شيئا، وفجأة انطلق طائراً، ارتفع فوق السور بمتر، طار ربما لثلاثة أمتار قبل أن تطاله الحصاة التي أطلقتها نبلة الصبي.

رأيت العصفور يخبط بجناحيه وكأنه يخمش الفضاء، يفتح منقاريه للمرة الأخيرة، وفجأة يكف عن الارتجاف ويهبط عموديا معانقا الأرض، لاحقا بقطرات دم قذفها منقاره في ارتجافته الأخيرة.

جدير بالذكر أن "فاتحة لصاحب المقام" هي المجموعة الخامسة للكاتب، فقد سبقها في الصدور "السعار والشذى"، و"العائد إلى فرحانة"، و"دم العصفور"، و"ساعة قبل النوم"، وله أيضا مجموعة قصصية للأطفال بعنوان "العش للعصافير"، ورواية "حالة شجن" وعدد من الكتب النقدية، منها "رشفات من النهر"، "الرواية فن البحث عن الإنسان" و"ربيع البنفسج".

وسبق للكاتب أن فاز بالمركز الأول في مسابقة نادي القصة المصري للقصة القصيرة عام "1997"، كما فاز في مسابقات جمعية الأدباء، وقصور الثقافة، وساقية الصاوي، وفازت روايته "حالة شجن" بجائزة إحسان عبدالقدوس عام 2002.