فقدت الإنسانية أميرها، بوفاة أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، طيب الله ثراه. رحل من لا تطاوع القلم في رثائه الكلمات، ولا تطاوعه في نعيه العبارات، فمآثره لا تحصيها مجلدات. واستقبل القبر جاثيا رفات ضيفه لما له من كل هذه الحسنات، مات الذي أحيا نفوسا في شتى بقاع الأرض، وقد أسهدها رحيله، فباتت باكية، وضاقت عيونها بالدموع والعبرات، وامتلأت قلوبها بالحسرات. قد فتح الراحل عقله وقلبه للإنسانية كلها، بعطاء لا يتوقف ولا ينقطع لكل الشعوب والأجناس، فنال بجدارة واستحقاق لقب أمير الإنسانية من بين أكثر من مئتي رئيس دولة، تضمها المنظمة العالمية للأمم المتحدة. فقدت الإنسانية بفقده قائدا للعمل الإنساني، لا يشق له في هذا العمل غبار، قائد المروءة والوفاء والرأي والحجا ورأس الحكمة، الداعي إلى المحبة والسلام والتصالح والوئام. رحل رمز التسامح والمحبة والسلام، الذي حرص على عقد مؤتمر إعمار العراق في الكويت منارة العطاء الإنساني، انطلاقا من ثقافة التسامح التي كان يتحلى بها، والتي هي النسيج الاجتماعي الأصيل لشعب الكويت، الإنساني النشأة والنزعة، ونزولاً عند قوله تعالى :"وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" فلا يتحمل العراق وشعبه وزر نزوات وغزوات حاكم بطش أصلاً بشعبه، وحكم أمته بالحديد والنار. حمل الراحل على عاتقه حماية الوحدة الوطنية، وتحقيق الاستقرار، قائلاً: واجبنا جميعا، العمل على حماية وطننا من مخاطر الفتنة الطائفية، وتحصين مجتمعنا ضد هذا الوباء الذي يفتك بالشعوب حولنا.

وأصدر مرسوم قانون حماية الوحدة الوطنية، الذي انطلق حسبما قررت مذكرته الإيضاحية، إيمانا بكرامة الإنسان الذي أعزه الله منذ بدء الخليقة، وحقه في حياة كريمة على أسس من الحرية والعدالة والمساواة وتحقيقا للمبادئ الخالدة للدين الإسلامي الحنيف والديانات السماوية الأخرى، وإقرارا من الكويت بمبادئ الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على أن كل أشكال العنصرية هي تحدّ للكرامة الإنسانية ومن الواجب إدانة جميع ممارستها والعمل على إزالتها.

Ad

وسيسجل التاريخ للأمير الراحل أنه لم يقتصر على استخدام صلاحياته الدستورية، في حماية الوحدة الوطنية، بل حماها بنفسه وبروحه، بالقرار الشجاع والحاسم الذي اتخذه، بانتقاله فور وقوع الجريمة الانتحارية البشعة في مسجد الإمام الصادق إلى المسجد، ليقف سموه جنبا إلى جنب مع شعبه وليواسي أهالي الشهداء ويبلسم آلام الجرحى، ولم يعبأ سموه بمخاطر هذا الانتقال، فقد يعقب هذه الجريمة انفجارات.

رحل من قال أنا من يحمي الدستور ولن أسمح بالمساس به، فهو الضمان الأساسي بعد الله لأمن الوطن واستقراره، فالتزامنا بالدستور ثابت وإيماننا بالنهج الديمقراطي راسخ. سيشهد التاريخ للأمير الراحل أنه لم يكن رئيسا لدولة فحسب، بل أميرا للإنسانية جمعاء، فهو المداوي لجراحها وبلسمها، وهو مصابها لا شعبه وحده المصاب.

وليرقد الراحل في قبره راضيا بما قدمه من عطاء، لبلاده وللإنسانية كلها، فقد تولى بعده، الأمير الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح سدة الإمارة، وكان قد لازمه وليا للعهد منذ أن تولى الأمير ولايته، كما كان قد شارك في الحكم في أصعب الأوقات والتحديات، فكان للمناصب التي تولاها خير قائد وخير ربان، طيبا سمحا حكيما كسلفه.

ويظل بناء الأمير الشامخ الإنساني بعد رحيله محفوظا، وطيفه ماثلا وصوته مسموعا، وإن كان الجسد غائبا فالنبع الذي نهل منه الأمير، كل ما قدمه لبلده وللإنسانية، مازال باقيا: ديننا الحنيف ودستور البلاد الذاخر بالمقومات الأساسية لمجتمع الأسرة الواحدة وللتعايش مع الآخر، ولحقوق الإنسان، وسيظل شعب الكويت، الإنساني النشأة والنزعة، مصدر إلهام، لكل حكام الكويت، فالأمة هي مصدر السلطات جميعا. ونسأل الله لك يا أمير الإنسانية المغفرة والرحمة، والفردوس الأعلى من الجنة، وأن يعين صاحب السمو الشيخ نواف الأحمد الصباح على حمل الأمانة، وإكمال مسيرة العطاء.