تجاهل مرشحا الانتخابات الرئاسية الأميركية في هذه السنة الى حد كبير الدور الذي تؤديه القوات العسكرية في صنع سياسة الولايات المتحدة بصورة عامة ومحددة، وتظل القوة الأميركية الأداة الأكثر نشاطاً وفعالية في العالم ولكن الجمهوريين والديمقراطيين وجدوا أشياء أخرى للتحدث عنها.

ومنذ نهاية الحرب الباردة استخدمت الإدارات الأميركية المتعاقبة الجيش من أجل تنفيذ سياستها، وفي العقدين الماضيين قامت القوات الجوية والبحرية بأكثر من 100 ألف غارة، لكن هذه الوتيرة من الحملات النشطة لم تحقق سوى القليل من النتائج الإيجابية المرجوة، والحرب الطويلة في أفغانستان والعراق، على سبيل المثال، كانت فاشلة بشكل واضح وكذلك الحال بالنسبة الى الحملات الهادفة الى تحقيق الاستقرار والسلام في ليبيا والصومال وسورية، وينسحب ذلك أيضاً على ما يعرف باسم "الحرب العالمية على الإرهاب" التي تستمر من دون نهاية.

Ad

ارتكاب الأخطاء

ولكن يبدو في الوسط السياسي الأميركي اليوم القليل من الاهتمام إزاء الأسباب التي أسفرت عن قدر كبير من الخسائر في الأرواح والأموال من دون تحقيق نجاح دائم، وثمة اعتراف بأن "أخطاء قد ارتكبت"، خصوصا في الحرب في العراق، وعلى الرغم من ذلك يستمر تجاهل الدوائر الرسمية الأميركية للعوامل التي أسفرت عن تلك الكوارث، كما أن قتل الشرطة لأحد الزنوج أثار موجة منطقية من الغضب الشعبي.

وفي ما يشبه الإجماع يدعم المواطن الأميركي دور القوات العسكرية لبلاده في قضايا العالم، لكنه يرفض التورط بعمق في العملية كما حدث خلال العقود الأخيرة، فقد أصبحت الفكرة تتمحور حول حماية أرواح الأميركيين، وكان المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية جو بايدن قال في ختام كلمة له في مناسبة قبوله ترشيح الحزب له أنه يتضرع الى السماء لحماية جنود البلاد "وأسأل الله أن يحمي جنودنا"، لكنه لم يتطرق في خطابه الذي استمر 24 دقيقة إلى ما تقوم به القوات الأميركية في الوقت الراهن أو سبب التضرع الى الله من أجل حمايتها، كما أنه لم يعرض أي أفكار حول كيفية قيام إدارته في حال فوزه بالعمل بطريقة مختلفة.

جدير بالذكر أن الأميركيين لا يحبون على الإطلاق الكلام عن المشاركة في حروب في الأجواء الراهنة من الأزمات التي تجتاح العالم، وقد حرص بايدن على إرضائهم من خلال أكثر الخطابات أهمية في عمله السياسي، كما أنه تحدث بصورة عابرة عن مقتل ابنه الذي كان يخدم في العراق وعن الكشف عن وضع روسيا مكافآت لقتل الجنود الأميركيين في أفغانستان.

ولا يقتصر هذا التوجه نحو تفادي الحروب الأميركية الأخيرة على بايدن أو الحزب الديمقراطي لأنه ميل واضح للحزبين ومراجعة طال انتظارها لسياسة الأمن القومي الأساسية.

قيادة أميركا للعالم

في الفترة بين سقوط جدار برلين والانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 تعاون قادة الحزبين السياسيين في الولايات المتحدة من أجل طرح صورة تظهر فعالية وضرورة ما كانوا يشيرون اليه باسم " قيادة أميركا للعالم" التي تمثلت في استراتيجية رفيعة تبرز التفوق العسكري، ولسوء الحظ لم تسفر تلك الاستراتيجية عن نتيجة مرضية كما تشهد على ذلك موجة الاضطرابات والعنف في أفغانستان والعراق، وعلى الرغم من استفادة الصناعة الدفاعية من اندلاع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة لم يحقق الشعب الأميركي الفوائد ذاتها، كما أن استمرار الحروب لم يجعل المواطن الأميركي أكثر حرية وازدهاراً بل حولته الى أسير ديون ضخمة، وصرفت اهتمام الدولة عن القضايا الحيوية الداخلية.

وبرزت صور أخرى لقيادة الولايات المتحدة العسكرية في العام الحالي، وتعرض الصين المثل الأكثر جلاء للصقور كما تزداد الدعوات اليومية الشعبية الى إدارة ترامب لمواجهة نفوذ بكين، ويرحب الكثير من الأميركيين بإمكانية اندلاع حرب باردة بين الصين والولايات المتحدة، وتشمل المناطق التي تؤكد قيادة واشنطن ضد مجموعة من الدول مثل إيران وروسيا وفنزويلا إضافة الى وجود مجموعات صغيرة معارضة تتطلع الى تغيير النظام القائم في كراكاس.

ويشير التمسك بهذه النظرية عن قيادة أميركا للعالم الى ديمومة الافتراضات التي تتحدث عن سياسة الأمن القومي الأميركية في فترة ما بعد الحرب الباردة، والتشديد على حشد القوة العسكرية واستخدامها.

طرح الأكاذيب

جدير بالذكر أن الولايات المتحدة تمنح نفسها ميزة ليست متاحة أمام أي دولة أخرى في العالم، وهي أنها– بحسب تقديرها– الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها، ولكن الحكم على تلك النظرة من خلال النتائج التي تحققت في أفغانستان والعراق ومسارح العمليات المماثلة الأخرى تؤكد أن الإدارة الأميركية تستمر في إلحاق الدمار تحت اسم قيم الديمقراطية والحرية والإنسانية المزعومة.

وفي خضم هذا التباين الواضح يوجد ضوء في نهاية النفق ومخرج بديل للوضع الراهن، ويتضمن هذا المسار اقتراحاً بالنأي عن التدخل في قضايا الدول الأخرى وتحويلها إلى اهتمام عالمي واسع، وفي ذلك فارق كبير، ومؤثر لأن السياسات العالمية تبرز المشاكل التي تهدد كل الدول- سواء كانت قوية أو ضعيفة وغنية أو فقيرة- وليس من منظور التشديد على جوانب المنافسة الجيوسياسية التي ترى أن الولايات المتحدة منشغلة بكل الوسائل الممكنة من أجل الحفاظ على تفوقها ومواجهة تحديات خصومها، وليس من الصعب تحديد تلك المشاكل المشتركة التي تشمل الأمراض المعدية مثل وباء كورونا المستجد وخطر اندلاع نزاع نووي وتغير المناخ.

وتجدر الاشارة الى أن إدارة ترامب الثانية لن تعترف على الإطلاق بوجود ذلك المسار البديل، ومن المؤسف أيضاً أن وصول إدارة جو بايدن الى الحكم لن يغير من جوهر المشكلة لأنها ستكتفي بالتحدث عنها فقط من دون أي خطوات أو إجراءات عملية، وعلى الرغم من اعتبار بايدن في حملاته الانتخابية تغير المناخ أزمة، فإنه وصفه بـ"فرصة ضخمة" إضافة إلى أن سجل بايدن الخاص واختياره مستشاريه يشيران إلى إدارة أقل اهتماماً بحدوث تغيير حقيقي.

وتجدر الإشارة إلى أن دونالد ترامب فاز بأكثرية كبيرة في عام 2016 لأن عدداً ضخماً من المواطنين فقدوا الثقة بسياسة المؤسسات التي أغرقت الولايات المتحدة في مستنقع ما يدعوه ترامب ونقاد السياسة العسكرية الأميركية "حروب لا نهاية لها"، وكان أن طرح ترامب نفسه على شكل مصلح سيعمل على جعل "أميركا أولاً"، لكنه لم يصلح شيئاً وحطم الكثير من الأشياء، وألحق ضرراً فادحاً بصدقية الولايات المتحدة واستمرت الحروب التي ورثها عن الإدارة الأميركية السابقة.

خطاب القبول بالترشيح

لننظر الى قيمة خطاب بايدن بعد قبوله ترشيح الحزب الديمقراطي له لخوض معركة الرئاسة، حيث قال إنه ينوي العمل على أجندة "أميركا أولاً" ولكن من دون مغالاة، كما طرح نفسه كعنصر تجديد محلي، وقد وعد بالعمل على إنقاذ "روح أميركا" لا استعادة العالم كله.

ولكن إنقاذ روح الولايات المتحدة سيتطلب مراجعة نزيهة لسياسة أميركا الخارجية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وسوء الاستخدام المتهور للقوة العسكرية، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن إنجاز هذا الهدف المنشود سيتطلب رئيساً غير ترامب وكل الأعمال التي قام بها حتى الآن.

والخبرة السياسية المطلوبة من أجل تحقيق تلك الأهداف تتمثل بالتشديد على التعاون المشترك لا على العمل الأحادي الجانب، واللجوء الى استخدام القوة كملاذ أخير إضافة إلى احترام التزامات المعاهدات والتمسك بقوانين منع الحروب الوقائية وتشجيع الحلفاء على العمل من أجل حماية أنفسهم، ويستتبع ذلك كله العمل من أجل تقوية المؤسسات الدولية لا تقويضها بصورة أو بأخرى.

وأخيراً فإن تحقيق تلك الأهداف يشمل أيضاً عدم تحديد حجم ميزانية وزارة الدفاع على شكل المقياس النهائي للأمن القومي الأميركي.

أولويات بايدن

في ضوء أولويات بايدن يعتبر تردده في الحديث عن الحروب الخارجية مسألة مفهومة تماماً، وعلى الرغم من ذلك، وإذا أرادت إدارته العودة إلى التعريف العسكري لقيادة أميركا للعالم والذي ظل يمثل خطأ موقف المؤسسة الرسمية طوال عقود من الزمن فسيجد أن من الصعب تفادي تلك الخطوة، وسيفضي ذلك المسار الى مزيد من الحروب وهو عكس وجهة نظر بايدن المعلنة.

من جهة إخرى، إذا كان بايدن جاداً بشأن تحويل السياسة الخارجية الأميركية فيتعين عليه إعطاء أولوية الى الأمور التي تهم وتؤثر بشكل واضح في تهديد مباشر لسلامة الشعب الأميركي ورفاهيته. ولا يزال الإرهاب يمثل مشكلة صعبة ومتفاقمة وسيستمر على هذا النحو في المستقبل المنظور. وإضافة الى ذلك فإن التصرفات العدوانية من جانب الخصوم مثل الصين وروسيا وإيران تسهم في تذكير الأميركيين بديمومة الجوانب الجيوسياسية، ولكن فيما يتعلق بالخطر الوشيك فإن كل تلك التهديدات لا تقارن بحصيلة ضحايا وباء كورونا أو بحصيلة الخراب والدمار التي تنجم سنوياً نتيجة العواصف والحرائق التي تجتاح البلاد التي لن تخضع بأي حال الى حل عسكري.

عقبات أمام بايدن

الحرب هي الخصم الرهيب الذي سيمنع بايدن من تحقيق ما وعد به، والخطوة الأولى نحو بناء الولايات المتحدة المثالية التي يتطلع إليها إنما تتمثل في تفادي النزاعات المسلحة العقيمة وغير الضرورية، وسيتطلب ذلك الهدف إعادة ترتيب جذرية لسياسات الأمن القومي في الولايات المتحدة بحيث تعطي الأولوية إلى سلامة الأميركيين ورفاهيتهم في بلادهم، لا من خلال السعي إلى القضاء على الأعداء في الخارج.

*أندرو جي باشيفيتش