هي تردد وهم يجلسون بأعين تلمع بدمعها، وبعض ما تبقى من بريق حسن وجمال، كثيرون مثلها ومثلهم يلهثون في الزحام اليومي، يبحثون عن بقعة ضوء، وإن لم يجدوها اتجهوا للنكات.

قديما كانوا وكنا نقول إن المصريين هم فقط أصحاب النكتة، والآن كثرت النكبات على العرب فتحولوا جميعا إلى صناعة الفكاهة، وبالطبع يحاولون الالتحاق بركب المصريين الأكثر خفة دم في الكون كله رغم أوجاعهم.

Ad

كل يبحث عن أمل حتى ذاك الذي راح يجهز حقائب سفره، ويغلف أثاث منزله ليخزنه، حتى هو يعرف أن المدينة التي سيرحل لها قد لا تكون هي من سيعيد له ولعائلته الحياة، فكثرت صور المودعين والمغادرين والباقين ربما بإرادتهم كجزء من صمود اعتادوا أن يرافق سني عمرهم، وآخرون لانعدام الفرص.

نشرة الأخبار المسائية تحمل صور الفارين عبر البحر، أولئك الذين تصطادهم الأمواج العالية أو يفترسهم كورونا أو ربما خفر سواحل بلد جار لا يتحمل مزيداً من الباحثين عن فرص حياة في زمن الموت المجاني إذا لم تلبس الكمامة أو تتخذ احتياطاتك أو لم تلتزم ببيتك حد الكآبة.

كانت البهجة سيرة أيامهم، وكثيراً ما كانوا يحسدون عليها "فمن أين يأتون بكل هذا الفرح؟"، الآن هناك من يبحث بين أنقاض بيته عن صورة أو ذكرى يتعلق بها أو يورثها لأبنائه أو ربما أحفاده، كان في هذه المدينة كثيراً من الموسيقى والرقص وقمة الجمال.

تبقى بيروت بعد كل ما أصابها ربما بكمادات هنا وهناك وتشوهات عسى ألا تبقى كما هي حال بعض مخلفات حربها الأهلية الأخيرة!! تبقى مدينة الجمال المعتق، في شوارع مر بها كثيرون من أبناء المنطقة، بعضهم كان هارباً من زنزانة مكتظة تنتظره بسبب كلمة كتبها أو نطق بها قبل أن تكثر وسائل التواصل وتتحول إلى منصات لنشر الكراهية والحقد بدلا من المعرفة.

وآخرون زحفوا لها لمعرفتهم بأنها حرة لا تستعبد، مدينة لكل الأحبة والأحرار ومحبي الشعر والثقافة والسياسة أيضا، المقاهي التي كانت تكتظ بهم وأصوات نقاشاتهم المحتدة وأكواب القهوة نهارا ومشروبات أخرى مساء وليلا، لا يخافون العسس ولا المتنصتين الجالسين هنا وهناك لتسجيل أنفاسهم، بيروت كانت رئة يتنفس منها كثير من شباب وشابات تلك الأيام، لا تزال تتمسك بكونها رئة العرب رغم كل ما عمل بها.

هي الأخرى كما هو راحت تردد: سرقوا كل شيء "كل شيء، بيوتنا، وظائفنا، استقرارنا، عيوننا، صحتنا، شوهوا وجوهنا بزجاج انفجارهم، سرقوا حتى ضحكتنا..."، مثله هناك كثير من اللبنانيين واللبنانيات يصنعون البسمة من عمق الكآبة، يمسكون بأيدي بعضهم رغم التباعد الاجتماعي، ويغزلون المرح وسط سحابة من السواد غطت المدينة، يرقصون على وجعهم ويخبئون آلامهم، يولعون شمعة علها تحميهم من القادم المجهول أو تنير عتمة أيامهم.

يتفاءلون بمكالمة ويغزلون شعر تلك الشابة القادمة من مدن الملح، التي عبرت المطارات غير مبالية بذاك الفيروس العابر للقارات، ولا تخويف البعض وتهويل الآخرين، جاءت لتزرع ابتسامة هنا وبذرة أمل هناك، وتقول لهم إنكم لستم وحدكم، كثيرون هناك ربما يبدو أنهم بعيدون لكنهم يترقبون أن يتحول أي نفس تحت الأنقاض إلى حياة، ويأملون أن يرسلوا لكم ما يستطيعون وهو أضعف الإيمان!!

هي التي عاشت معهم لحظاتهم، آلامهم وأوجاعهم، لم تكن تلك المرة الأولى لها، فقلبها يبقى مع أطفال بيروت والشام والقاهرة ورام الله، ومدن عربية أخرى وحّدها الوجع على تنوعاته، راحت تمسح الزجاج عن وجوههم، أعادت لهم بسمة كانوا قد تصوروا أنها من بقايا الماضي.

هم المنكوبون جدلوا ظفائرها وجلسوا ملتصقين بها يكررون الأسئلة والضحكات ويرسمون أحلامهم فوق الورق الأبيض كقلبها وقلوبهم. ألم تقل الرائعة فيروز "إيه في أمل" وهي الأكثر صدقاً منذ أن رددت "إلى فلسطين خذوني معكم"، وكأنها تحكي ما هو مخزون في قلوبهم كلهم.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية