منذ بداية أزمة «كوفيد - 19»، تم تسليط الضوء على قضايا مجتمعية عدة وأخرى تتعلق بمستوى الأفراد أنفسهم، فقد أجبرنا الحظر على مواجهة أنفسنا وعاداتنا، وغيّر كثيرا من أنماط حياتنا الشخصية.

ولم يكن الوطن وشؤونه بمنأى عن تداعيات ذلك، فقد أظهرت الأزمة معضلة المالية العامة التي كانت تعاني منذ زمن قصور السياسات المالية والاقتصادية والاعتماد المتزايد على مصدر وحيد للإيرادات، وهو النفط الذي شهد تراجعا هائلا في أسعاره التي بلغت أدنى مستوى لها في أبريل 2020، وقد تزامن ذلك مع تزايد الكشف عن قضايا الفساد المالي والإداري التي أثّرت بلا شك على سمعة الدولة وستؤثر حتما على تصنيفها الائتماني.

Ad

وقد بذلت الحكومة محاولات عدة لسدّ ثغرات العجز في الميزانية العامة، ومنها تخفيض المصروفات، والتقدم بمشروع قانون الدّين العام الى مجلس الأمة، لكّنها بالتأكيد حلول قصيرة المدى لمقابلة أزمة هيكلية يعانيها الاقتصاد وميزانية الدولة منذ زمن بعيد.

ومن أخطر الحلول التي تقدّمت بها الحكومة لاحقا لمقابلة العجز الموازني هو ذلك التعديل الذي أقره المجلس في جلسته بتاريخ 19 أغسطس 2020 على القانون رقم 106 لسنة 1976، والخاص بشأن احتياطي الأجيال القادمة، حيث نص التعديل على اشتراط نسبة الاستقطاع (المقررة بالقانون 10 بالمئة) على تحقيق فائض الإيرادات من الميزانية العامة.

وغنيّ عن القول أن هذه النسبة، وفقاً للتعديل، ستخضع سنويا لتقديرات وزير المالية وموافقة المجلس، وهنا يكمن الخطر الأكبر، حيث ستخضع حقوق الأجيال القادمة التي ليست لها كلمة ولا رأي الآن لتقدير الوزير والنواب، الذين علّمتنا تجاربنا التاريخية معهم مدى حرصهم على شراء الود والبقاء في الكرسي النيابي أو الوزاري على حساب الحلول الفنية والموضوعية التي تصب في مصلحة الوطن وأجياله القادمة.

أقول ذلك ليقيني بأن السياسي أو الوزير قد يعمد الى تضخيم الميزانية سنويا لتمويل الاستهلاك الحالي النهم على حساب المصلحة العامة... وأعجب أن مثل هذا الأمر الخطير لم يجد المناقشة الجادة والكافية من ذوي الاختصاص والاقتصاديين والمهتمين بدوائر الإعلام، فالكل يعلم أن الحلول التي تعتمد على تخفيض المصاريف والنفقات الرأسمالية، وتتعدى على احتياطي الأجيال القادمة، وتصادر ما يحوّل إليه من موارد هي حلول مؤقتة لا تعالج قضايا أعمق تتعلق بأسس الإنتاج والنمو في اقتصادنا، بل وتقلل من دعم المتانة الحالية للدولة، وهذا ما أكده وزير المالية نفسه عندما كان يناقش تقرير وكالة ستاندرد آند بورز بتثبيت التصنيف الائتماني للدولة عند (AA)، الوزير نفسه يعلم بأن التعديلات التي وافق عليها في قانون 106 ستفتح أبواب اللعب في الميزانية بتضخيم النفقات وتقليل النمو في الأصول التي تدعم مركز الكويت المالي، كما تتعدى على حقوق الأجيال القادمة.

الجميع الآن يشكو من قضايا الفساد وغسل الأموال والتعدي على المال العام التي في معظمها قضايا فردية يستحق من ارتكبها العقاب، لكن لا أحد يتكلم عن الأزمة الأكبر، وهي «غسل حقوق أجيال المستقبل»، التي اعتدى عليها السياسون بعلم أو بغيره.

* قسم التمويل والمنشآت المالية / جامعة الكويت