كشفت مناقشة الميزانية العامة للدولة، شاملةً ميزانيات الجهات الحكومية والمستقلة، في مجلس الأمة، عن رسوب حكومي-برلماني مشترك في التعامل مع أحد أهم الدروس المباشرة، التي قدمتها تداعيات أزمة كورونا على الاقتصاد المحلي.

والرسوب في ملف ميزانية الدولة لا يقتصر فقط على المناقشة السريعة، التي تناولت نحو 70 ميزانية مستقلة وملحقة وحساباً ختامياً، خلال أقل من 10 ساعات موزعة على جلستين برلمانيتين، بل فيما هو أعمق؛ من جهة إسقاط ترف التعامل مع مستقبل الدولة المالي والاقتصادي، الذي كان متاحاً في زمن الفوائض المالية المدعومة بارتفاع كبير في أسعار النفط، على ميزانية يفترض أنها استثنائية تجاهلت فيها الحكومة ومجلس الأمة تماماً الآثار والتداعيات الاقتصادية الناتجة عن أزمة كورونا، وأهمها الانخفاض الحاد في أسعار النفط بالتوازي مع تحديات تصاعد الإنفاق العام، فلم تطرح خطة -لا مجرد خطاب من نائب أو حتى أكثر- تتعلق ببدائل تمويل الميزانية أو الحد من مصروفاتها أو العمل على تحويلها، أي ميزانية تنموية تعالج اختلالات الاقتصاد بأهداف مرسومة ومحددة سنوياً.

Ad

سوق النفط

وبنظرة عامة على سوق النفط، الممول الأكبر لميزانية الكويت بما يتجاوز 90 في المئة من الإيرادات، نجد أن الصورة في العالم لا تزال قاتمة، إذ تشير آخر البيانات إلى أنه رغم التحسن الوقتي في الأسعار، بالتزامن مع اتفاق "أوبك بلس" لخفض الانتاج، فإن السعودية أكبر مصدر للخام في العالم خفضت السعر الرسمي لبيع الخام العربي الخفيف في أكتوبر بأكبر قدر منذ مايو، في مؤشر على أن الطلب سيظل ضعيفاً، أما الصين أكبر مستورد للخام في العالم فقد تباطأت وارداتها النفطية في أغسطس، في مؤشر لتراجع إنتاج المصانع فيها، في وقت اعتبرت فيه وكالة الطاقة الدولية أن تراكم المخزونات وحالة عدم اليقين إزاء طلب الصين على النفط يفرضان ضبابية حول تعافي أسواق الخام، وهي ذات الوكالة التي بينت أن تقلص السفر جواً وحده بسبب تداعيات فيروس كورونا سيخفّض الطلب العالمي على النفط 8.1 ملايين برميل يومياً العام المقبل.

يذكر أن الميزانية العامة للدولة تقدر سعر الأساس عند 55 دولاراً للبرميل، بفرضية عجز 9.2 مليارات دينار وسعر تعادُل يبلغ 86 دولارا للبرميل، في حين يبلغ سعر برميل النفط الكويتي، حسب آخر إغلاق، 41.33 دولاراً، في حين أعلنت الكويت عن عجز 4.3 مليارات دينار في الفترة من 1 أبريل إلى 31 يوليو 2020.

التحوط مقابل الانفلات

هذه الصورة على قتامتها تتطلب تغييراً جذرياً في عقلية التعامل مع الميزانية العامة للدولة، بشكل يغلب فيه التحوط على الانفلات، من خلال اعتماد خطة من مرحلتين، بالتزامن مع إقرار الميزانية العامة للدولة: الأولى عاجلة على المدى القصير؛ مثل وقف استقطاع حصة صندوق الأجيال القادمة المقدرة بـ 10 في المئة من إجمالي الإيرادات النفطية، لتوفير حوالي 1.4 مليار دينار للسنة المالية 2020 -2021، إلى جانب توريد الأرباح المحتجزة من مؤسسة البترول الكويتية والجهات الأخرى، أو الاقتراض من هذه الجهات على أساس استثماري، والعمل على خفض ميزانية الجهات الحكومية ومبادلة الأصول بالمال ما بين صندوقي الاحتياطي العام واحتياطي الأجيال. أما المرحلة الثانية فتتمثل في الجانب الاستراتيجي من الخطة، على المديين المتوسط والطويل، عبر استخدام أموال الميزانية كأداة للإصلاح الاقتصادي، لاسيما تنمية الايرادات غير النفطية وخلق فرص العمل للمواطنين وتعديل التركيبة السكانية وخلق فرص الاستثمار التي تحفز أموال الودائع في البنوك، والتي بلغت في آخر إحصائية 37.4 مليار دينار للقطاع الخاص، فضلاً عن جذب الاستثمارات الاجنبية للبلاد، إلى جانب العمل على إصلاح حال أوضاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، كي تستوعب أكبر عدد ممكن من الشباب الكويتيين القادمين لسوق العمل في السنوات المقبلة، بما يخفف العبء على مصروفات الرواتب التي تلتهم 53 في المئة من حجم ميزانية الدولة.

ولعل ما تم إعلانه، أمس الأول، من خفض لنفقات الميزانية بواقع 945 مليون دينار ليصبح إجماليها 21.5 مليار دينار، رغم أهميته، لم ينتج عن سياسات ضبط للهدر أو ترشيد للإنفاق، بل هو نتيجة لتوقف المصروفات على أعمال متنوعة عطلتها فترات الحظر، الذي فرضته ازمة كورونا، وبالتالي فهو ليس نتيجة خطة اقتصادية، بل ظروف قهرية، سيعود الإنفاق المتضخم بعدها بمجرد تجاوزها.

قدرة ورواتب

ولعل الحديث النيابي-الحكومي عن عدم القدرة على دفع رواتب الموظفين بحلول شهر نوفمبر المقبل، ولو من ناحية محاسبية، يتطلب تعاملاً أشمل بكثير من مجرد توفير السيولة لسداد الرواتب، بحيث يكون جرس إنذار مستقبلي يختبر من ناحيةٍ سياسات المرونة المالية لدى الدولة، خصوصاً بعد نفاد السيولة في صندوق الاحتياطي العام، ومن ناحية أخرى يحفز على اتخاذ سياسات اقتصادية ومالية اصلاحية ذات ديمومة تقلل من مخاطر السيولة لدى الدولة، فضلاً عن مخاطر البطالة مثلاً.

وفي الحقيقة، فإن ما ناقشه مجلس الأمة، أمس، على هامش الميزانيات، فيما يعرف بالحالة المالية للدولة بجلسة سرية -لا يفهم أحد جدوى سريتها وحجب معلوماتها عن الرأي العام والمختصين، مع العلم أن بيانات الجلسة سنوياً تتسرب بشكل غير رسمي- ليس نقاشاً فنياً ومستفيضاً للمالية العامة وكفاءة سياساتها وجودة خططها ومستقبل ثرواتها الطبيعية والمالية، ومدى قدرة الدولة على قراءة المخاطر الخاصة بالاقتصاد، والتعامل معها، بل مجرد بيان حسابي للأصول والاحتياطيات لا يناقش بعمق أيا من تحديات الحاضر أو المستقبل.

سقف ومعالجة

من الحصافة اليوم، ليس فقط إعادة النظر في تحديد سقف بقانون لحجم إنفاق الميزانية لمدة تتراوح ما بين 3 و5 سنوات قادمة، وهو ما فشلت فيه الحكومة سابقا، ولكن ايضا في غربلة شاملة للمصروفات الرأسمالية والجارية تشمل المناقصات والمشاريع غير المفيدة للاقتصاد، أو التي تخلو من العوائد المالية الاقتصادية للدولة، مروراً بمعالجة الإنفاق غير المبرر والمنفلت على أوجه شراء الولاءات السياسية كمصروفات العلاج بالخارج او فاتورة تأمين المتقاعدين، في دولة أصلاً تقدم الخدمات الطبية بالمجان، وصولاً الى معالجة بنود المصروفات السرية والخاصة في مختلف أجهزة الدولة، والتشدد في مصروفات المهمات الخارجية والدورات الداخلية والمؤتمرات والضيافة وغيرها من أوجه الهدر، التي يمكن السيطرة عليها بسهولة.

لقد منحتنا أزمة كورونا جملة من الدروس المستفادة لمعالجة الاقتصاد والمالية العامة والتركيبة السكانية والأمن الغذائي والتعليم والمشروعات الصغيرة والمتوسطة واستخدام التكنولوجيا وغيرها كثير، وبالتالي فإن التعامل باستخفاف مع أي ملف منها يعطي مؤشرات سيئة لمدى جدية بقية الملفات الأخرى. وفي الحقيقة، إن كانت الحكومة الحالية تعتبر نفسها بالفعل جديدة كتوجه لا شخوص، فعليها التعامل بجدية مع دروس الأزمة ليكون النجاح الحكومي وقتها بالفعل حقيقيا، مما يعطي أملاً بأن تغييراً إصلاحياً كبيراً قد حدث في آليات العمل الحكومي على المدى الطويل.