بعد غياب امتد لأكثر من نصف عام، زرتُ قبل أيام الأخ الفاضل وزير التربية السابق د. يعقوب الغنيم في ديوانه العامر الكائن في منطقة المنصورية.

ولصديقنا وأستاذنا الجليل الدكتور الغنيم عادة حسَنة، تستحق كثيراً التوقف عندها! فمن زار ديوانه العامر يعرف أنه يستقبل روّاده مساء كل ثلاثاء، وطبعاً في الأعياد وشهر رمضان، لكنّ الجميل في هذا الديوان، أنه يكون في كل يوم مكاناً رسمياً لعمل د. يعقوب، فله مكتب في صدر الديوان، يأتي إليه صباح كل يوم، وعلى مدار العام، لابساً ثيابه بهندامه المعروف، وكأنّه في عمل رسمي، ويجلس يومياً في بحث ودراسة وكتابة ما بين الساعة الثامنة والنصف صباحاً والثانية عشرة ظهراً. وهو إلى جانب قيامه بعمله المحبب إلى نفسه، فإنّه يستقبل مريديه وطلّابه، وكلّ من له حاجة أو سؤال، خاصة إذا كان الأمر يتعلّق بشيء من التراث والتاريخ، وتاريخ الكويت تحديداً. ومن هذا المكتب الحميم يكتب د. يعقوب مشاركاته التاريخية على صفحات جريدة النهار الكويتية، وصحف أخرى خليجية وعربية، إلى جانب كتاباته الشعرية، التي لا تكاد تترك مناسبة إلّا وكانت حاضرة فيها. وأكاد أجزم بأن هذه الممارسة بإشغال النفس في عمل دائم ومتجدد، تضفي على صاحبها ألقاً يمسُّ ويؤثر في قلبه وفكره ووعيه وجسده ونضاره وجهه وعموم حياته.

Ad

ممارسة الصديق د. الغنيم لا تبتعد كثيراً عن الممارسة ذاتها التي درج عليها الصديق العزيز د. سليمان الشطي، مع الفارق بأن د. الشطي بقي لسنوات طوال، يمارس دوره كأستاذ في قسم اللغة العربية بجامعة الكويت، وما إن ينتهي من درسه مع طلابه حتى يسارع إلى مكتبه المعروف في مقر رابطة الأدباء الكويتيين، يتقابل هو وصديق دربه الصديق العزيز الكاتب القصصي والروائي سليمان الخليفي، والصمت ثالثهما، لينهمكا في القراءة والكتابة، خاصة مع غزارة وتنوّع كتابات د. الشطي بين القصة والرواية والشعر والنقد والكتابة الصحافية. سنوات وسنوات، والدكتور الشطي مواظب على الحضور الصباحي في "الرابطة" لعمل جديد، وهذا ما جعل عطاءه مستمراً ومتجدداً، وجعل من شخصه الكريم، صديقاً عابراً للأجيال وعلى مختلف مشاربهم.

كل من د. الغنيم ود. الشطي، مثالٌ جميل وعملي وبسيط وعظيم، يستحق الالتفات إليه والتوقف عنده وتقليده والسّير على خطاه. فعدد كبير، وربّما يشكّل الأكثرية من الأشخاص، فور توقّف عطائه العملي، وتركه وظيفته، يتأثر بشكل مباشر وسلبي، ويظهر ذلك عليه وعلى محيطه الأقرب، ومن ثمّ على كلّ من كان يتابعه إذا كان صاحب عطاء فكري أو ثقافي أو فنّي، وفي حالات معروفة حول العالم، فإنّ تقاعد البعض من وظائفهم يكون سبباً مباشراً في خمول همّتهم في عيش الحياة، وبالتالي انعكاس ذلك على نفسياتهم وصحتهم، وقد يودي بحياتهم.

العمل هو الوجه الآخر لعُملة الحياة، وإذا كانت أعمال الحياة في عمومها تحتاج إلى مجهود عضلي، مما يقرنها بمراحل عمر الإنسان، فإنّ العمل العقلي الذهني الفكري، وأياً كان مجاله؛ فلسفياً، أو اقتصادياً، أو علمياً، أو أدبياً، أو فنياً، أو اجتماعياً، أو في أي من شؤون الحياة، لا يحتاج إلى أكثر من استغلال الوقت بشكل صحيح، وإصدار تعليمات للعقل بضرورة تطويع الجسم لخدمة الفكر والتفكير والدرس والدراسة، وبالتالي يعيش الإنسان آماداً وآماداً وهو في نفسية طيبة وسعيدة ومتجددة، لكونه لا يستشعر وحدةً، ولا يعاني مللاً، وفي الآن نفسه فإنّه يقطف ثمار عمله ساعة بساعة ويوماً بيوم، مما يجعله على وصل بلحظة العمر العابرة.

الصديقان العزيزان، الدكتوران الغنيم والشطي، القدوة الإنسانية والفكرية والثقافية الأجمل، لهما منّي كل الامتنان على درس الحياة الأهم الذي تعلّمتُه منهما، ولهما منّي الدعاء بالعمر المديد السعيد... آمين.