قد يتم تفسير ظاهرة التضخم الروائي والتسابق في مضمار الكتابة الروائية وفقاً للرأي القائل بمشاعية الرواية، وهي ليست فناً نخبوياً بالأساس، فكان لفظ الرواية في اللغة الفرنسية يدل على الأدب الشعبي المكتوب باللغة العامية الرومانية، حسب ما أوردَ ذلك بلحيا الطاهر في كتابه "الرواية العربية الجديدة"، إذاً فإنَّ مجال الاختبار مفتوح بالنسبة للجميع، والبتالي لا مندوحة من تصاعد المد الروائي طالما لا يتطلبُ هذا الفن سوى الرغبة في الاسترسال وتدوين المشاهدات واستحضار الذكريات المطعمة بما يجودُ به الخيال، أو إمتاح المادة من مظان تاريخية وصياغتها في رداء سردي مختلف.

ولكن هل يجوزُ تبسيط الموضوع إلى هذا الحد؟ وهل كل ما يصدرُ متجنساً بعلامة الرواية يتصفُ بخصائص مميزة لهذا الفن؟ هل يكفي التفصيل في الكتابة لإنجاز العمل الروائي وترويض المتلقي بالعوالم الموازية؟ ماذا عن دور التقنيات السردية في تأسيس الخطاب الروائي وبناء هيكلية المنجز السردي؟

Ad

تقودنا الأسئلة الفرعية السابقة إلى السؤال الجوهري ما هي المصادرُ التي يكتسبُ منها المبدعُ الدراية والمراس في تأليف الأعمال الروائية؟ صحيح أنَّ إنجاز العمل الروائي كان يعتمدُ على التفصيل الدقيق والاستغراق في الوصف دون أن يلتفتَ المبدع إلى ضرورة الالتزام بتخطيط مسبق لبناء مشروعه الروائي غير أنَّ الأمر بات يختلفُ مع انطلاق المبادرات النقدية ونحت المصطلحات السردية بالاستناد إلى محتويات العمل الروائي إذ تحولت كتابة الرواية إلى صنعةٍ، ولم يعد المحتوى القصصي هو ما يكونُ بيت القصيد في السرد الروائي، إنما يكمنُ عنصرُ تميز الهوية الإبداعية في النظم فبنظر ماريه ألبيريس، أن الرواية فن كفن العمارة والشعر.

الحياة المُعاصرة

إذا كانَ الاسترسال في الكتابة أمراً مقبولاً بالنسبة للكتاب الكلاسيكيين حيث لم يمانعْ بلزاك من إقحام مقالة حول لوحات أعجبته في طيات روايته فإنَّ هذا الأسلوب قد لا يستسيغهُ القارئ على المدى الطويل، لاسيما إذا عرفنا أنَّ إيقاع الحياة المُعاصرة يلقي بظلاله على أمزجة المتلقي والحال هذه فإنَّ إنجاز العمل الروائي يتطلبُ وجود برنامج يحددُ أدوات الكتابة وحجم العمل الروائي، إذ تعتبرُ الروائية العراقية لطفية الدليمي أنَّ سؤالا عن حجم العمل المطلوب كتابته مسألةُ جوهرية فبرأيها لا يمكن الشروع في الكتابة قبل أن يحدد المؤلفُ بدقة هل يريدُ كتابة رواية بدينة أو نحيفة؟ من بين ما يعنيه هذا الكلام أنَّ شكل الرواية لا بُدَّ أن يكون ضمن أولويات أجندة الروائي فبرأي إريك إيمانويل شيمت أنَّ الروائي يجب أن يكون متوازناً في الاهتمام بالتصميم والتفاصيل في نسيج عمله الإبداعي.

من جانبه، يرى "بنسالم حِميش" أنَّ ما هو ضروري بالنسبة للروائي هو أن يعرفَ كيف يستعينُ بهذا القالب أو ذاك بحسب قواعد المناسبة والكياسة وحسن الذائقة، وما يثيرُ الاستغراب أنَّ تصميم العمل الإبداعي قلما يحظي باهتمام في النقاشات النقدية، بينما كانَ الجدل قائماً حول دور النظم واللفظ في إرساء خصوصية النصوص المقدسة لدى أهل الكلام.

ومن نافلة القول انَّ النظم في الرواية هو ما يتمظهر في الصياغة والتشكيل ومستوى مشاركة المؤلف في فضاء الأحداث المسرودة، إضافة إلى صنف الراوي وزاوية النظر ونوع الضمير كل ذلك يشكلُ شبكة معقودة عليها مهمةُ تعيين نمط السرد والمسافة الفاصلة بين المؤلفِ والراوي الموكل إليه بسرد القصة، كما أنَّ موقع المتلقي في هذه المنظومة يتحددُ بناءً على ما يختزنهُ النص من طاقات إيحائية، وهنا يتضحُ دور تقنية الحذف والتلخيص في تفعيل خيال المتلقي، علماً بأنَّ معظم الروايات العربية تعتمدُ على الإطناب واستعادة تفاصيل الحدث الذي قد يتابعهُ المتلقي في مستهل الرواية، الأمر الذي يؤدي إلى رتابة السرد وتثاقل حركته مع أنَّ الحذف شكل من أشكال الإبداع.

النص الأدبي

زدْ على ما سبق أنَّ التناص في الروايات العربية غالباً ما يكون من نوع المباشر، وهذا ما يستنفدُ النص دلالاته المضمرة، إذ تحتشدُ الروايةُ بسرديات أسطورية وقصص تأريخية ومعلومات توثيقية، ومن المعلوم أنَّ التلميحَ هو من مميزات النص الأدبي واللافت في هذا السياق أيضاً هو ضعف التعبير، حيثُ لا يتمكنُ المؤلف من تقمص دور شخصياته، كما أنَّ المعلومات الورادة في تيار السرد تبدو ناتئةً لا تخدمُ الحقل المعجمي للنص.

ومن المناسب هنا الإشارة إلى ما تقوله آنا غريغوريغنا عن زوجها دستويفسكي، انَّ الأخير كان يتحول إلى محامٍ متمكن عندما يفرض عليه الموقف صياغة شخصية المحامي في رواياته، بحيث تمنت آنا لو كان صاحب "الشياطين" محامياً.

ويقولُ الروائي الأفغاني خالد الحسيني بهذا الصدد: "أقضي سنتين أو ثلاثاً في كتابة أي عمل من أعمالي، وكل شخصية فيها تعيشُ معي يوماً بيوم، وتستحيلُ جزءاً من حياتي" إذن فإنَّ التعبير الشخصي والحس الواقعي هما مكونان أساسيان في شخصية الروائي كما يؤكد إميل زولا هذا الجانب في كتابه "في الرواية ومسائل أخرى". يُذكر أنَّ زولا كان يجمعُ معلوماته حول النباتات في الحدائق، ويحددُ لائحةً بأسماء الأزهار، ومن ثمَّ يقومُ بتوظيفها في تلافيف أعماله، ما يعني أنَّ من متطلبات كتابة الرواية هي المتابعة والتقصي، فضلاً عن ضرورة الإدراك لتشكيل معجم المفردات الخاصة بموضوع الرواية ومراعاة مستويات اللغة.

دكتاتورية المؤلف

ما يستحقُ التأمل في الرواية العربية هو ظاهرة حضور المؤلف، بحيثُ يتخيل إليك أحياناً أنَّ نمط النص أقرب إلى التقرير من الرواية، إذ قلما يفلحُ صاحب العمل في التواري وراء إحدى شخصياته الورقية، إذ يفوقُ صوتُ المؤلف علواً على أصوات أخرى حتى ولو كانت الرواية موزعة على عدة فصول تحملُ أسماء شخصيات مشاركة في العمل.

وهذا ما يمكنُ تسميته بدكتاتورية المؤلف، إذ تأتي تدخلاته وتعليقاته المعبرة عن خلفيته الايدولوجية بوضوح يوفر عن المتلقي عناء التأويل، ويبدو أنَّ ما يقدمهُ في القالب الروائي ليس إلا عبارة عن مقتبساتٍ من أعماله السابقة.

ونحنُ نشيرُ إلى هذه الظاهرة فحري بنا التذكير بما أنجزه نجيب محفوظ في روايته "ميرامار"، حيثُ ترى إيقاعا متناغما بين التحولات الخارجية والمستوى النفسي لدى شخصياته، فضلا عما تتصفُ به الرواية من تعددية للأصوات بخلاف اللغة التقريرية في الروايات السائدة أكثر من ذلك فإنَّ هناك تشابهاً بين الروايات التي يتوالى إصدارها في معالجة الثيمات والاشتغال على ظواهر الإرهاب والهجرة والحرب ورمزية الجثة، هذا يعني أنَّ الطفرة الروائية ليست مصحوبةً بالوعي الإبداعي وإلا فكيف تفهمُ إهمال الروائيين لهموم الفرد وانعكاس التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في رؤيته.

فالانكباب على القضايا لا يضيف بالضرورة إلى إنتاج الأعمال المميزة؛ لأنَّ مع غياب الثيمات فإنَّ كتابة الرواية عن الرواية إمكانية متاحة على حد قول الناقد الجزائري لونيس بن علي صفوة، بأن تجديد الثقافة الروائية يستدعي إجراء المقارنة بين الرواية العربية والأعمال الأجنبية لتبصر بالفنيات العالية في مقاربة الثيمات والصياغة، وهنا يمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى رواية "فنان من العالم العائم" للكاتب الياباني كازو إيشغور، حيث يتناول في عمله ملامح بلده الاجتماعية والاقتصادية واختلاف الأجيال في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويتمُ هذا كله انطلاقاً من رصد توترات الفرد وقلقه.