في تلك اللحظة نفسها أطلقت الكنائس أجراسها ورفعت المساجد الصلوات، وقفت بيروت دقيقة صمت إلا من الصلوات والأدعية على خلفية نحيب أسر الضحايا، شهر قد مضى وهي تضمد جراحها، هي عاصمة الفرح تبحث عن ضوء في عتمة اللحظة.

شهر مضى، والمدينة تبحث بين الحطام عمن تبقى، عندما سمعت أنفاسا تحت ركام أحد مباني مار مخايل، جرى كل أولئك الذين لم يتوقفوا عن توزيع المحبة بالتساوي وربما الأمل.

Ad

ليلة الرابع من أغسطس لم تنم بيروت ولا لبنان ولا العالم، حبس الكثيرون أنفاسهم، كل يبحث عن خبر عن أخ، ابن، زوج، أم، أب، زوجة، حبيب، صديق، وكثيرون كانوا عند تلك اللحظة وما بعدها، دموعهم محبوسة في الأعين فلا وقت للبكاء، هذا وقت مسح الجراح وتضميدها، وإيقاف شلالات الدم التي سقت طرقات المدينة وجدرانها، وعمدت حبهم لها وحبهم كلهم لها.

تواصل الليل بالنهار، خرجت الشمس حزينة كما رحل القمر من شدة قساوة المشهد، كثير من الجرحى لم يجد شبراً في غرفة الطوارئ بمستشفيات بيروت فرحلوا بحثا عمن يضمد جراحهم، يمسح عرقهم ودمعهم ودمهم، بعضهم وصل حتى صيدا جنوبا وطرابلس شمالاً، وآخرون إلى المتن، كان مشوار ليلة الموت مجانيا!!

كثيرون "زمطوا" كما قال ذاك الطبيب، ربما من الموت أو الجراح، ولكن لم يتركهم الانفجار بل طاردهم في تفاصيل بيوتهم وحيواتهم وأحلامهم وذكرياتهم، هو أخذ كل شيء، كل شيء حتى تلك المساحة الضيقة من الخصوصية، انفجار البور دخل كل بيت في لبنان، ليس الأحياء القريبة فقط بل الأبعد وكثير من العاملين القادمين من مختلف مناطق لبنان ومن خارجه، تزاوجت الدماء والتصق الجرح بالجرح واختلطت الدماء.

في صباح الخامس من أغسطس زحف اللبنانيون واللبنانيات وغيرهم، وكل محبي المدينة وناسها، كل يريد أن يقول "لستم وحدكم"، كثيرون يرفعون الأنقاض وآخرون يكنسون الطرقات ويوزعون الطعام. بعضهم بدأ صباحا ولم يتوقف حتى الآن ينثر الزعتر على رغيف الصاج، ويوزع "المنقوشة" الساخنة زعتر ولبنة وجبنة، وماء للمارة وللعاملين، والأهم للسكان الذين ما إن بدأت أشعة الشمس تعيد الحياة لليلتهم الظلماء، حتى اكتشفوا بعض جراح ولا سكن. فقد الكثيرون منازلهم، تقول تلك السيدة الستينية "هذا بيتي ما عندي غيرو وين بدي أروح وين؟". أسئلتها بقيت تتردد في فضاء المكان فهي ليست الوحيدة، كثيرون مثلها، وبعضهم رفض اللجوء إلى منزل الأقارب وجلس "بكرامة" على كرسي أمام ركام مسكنه، بيته، شقى عمره ومخزن ذكرياته.

لم يتوقف شلال المتطوعين بل عشاق المدينة وناسها، رفعت بيروت رأسها بهم نظرت حولها بعين فكثيرون فقدوا أعينهم، راحت تتحسس رجلها، يدها ورأسها، تشابهت الإصابات رغم اختلافها ووحد الوجع الجميع لبنانيين وغيرهم، وما زال الألم الممزوج أحيانا بالغضب مستمراً.

أصبحت عيادات الأطباء والمستشفيات مكاناً لعلاج جماعي، كل يتفحص إصابات الآخر، وتلتقي الأسئلة "ألف سلامة، من الانفجار؟"، يسرد كلهم مكان إصاباته، وأين كان، وماذا كان يفعل... إلخ.

تحسست بيروت جراحها من الجميزا إلى مار مخايل والكرنتينا والأشرفية، بل بعضهم أحس بالانفجار في مناطق أبعد وأبعد وتساقطت النوافذ، زجاج وحطام تحت غيمة الحزن التي خيمت على المكان وتوسعت.

راح المتطوعون يغرسون بذور محبة وكثيرا من التلاحم، رص اللبنانيون قلوبهم، قلب عند قلب حتى لا تكون الأرواح الطاهرة التي رحلت والجروح التي لا تزال بحاجة لمداواة، حتى لا تبدو وكأنها حكاية النهاية لمدينة عرفت كيف ترقص فوق جراحها مرات، ونهضت من تحت أنقاض الاقتتال والحروب مرات ومرات.

لا تزال بيروت وكل اللبنانيين يعضون على أوجاعهم، يلملمون جراحهم، يرسمون البسمة على وجوه ترك الزجاج المتطاير بصماته عليها، تلك الفتاة التي قالت "ستبقى ابتسامتي"، والجروح غائرة في الوجه البريء، وتلك التي شاركت قصتها لنعرف جميعا حجم ما حدث، فقد كانت وخطيبها في طريقهم، لشراء فستان والذهاب للعشاء في ذاك للمطعم الهادئ بـ"راس بيروت"، صورتهما قبل الانفجار كانت يدين تحضنان بعضهما، وبعدها صارت جسدين مغطيين بالدم عند حافة الرصيف، وتستمر الروايات لألم وحدنا.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق"« المصرية