بعد أسبوعين من المؤتمرات السياسية المتعاقبة للحزبين «الديمقراطي» و«الجمهوري»، اتضحت الخيارات التي يواجهها الناخبون، والتي حددها الحزبان، وهي إما، وفقاً لدونالد ترامب الابن، «الكنيسة والعمل والمدرسة»، في مقابل الشغب والنهب والتخريب، وإما، كما حدد الحزب «الديمقراطي» الاختيار الانتخابي في، «الدماثة والتعاطف والنزاهة في مقابل كراهية الآخر والخوف والجشع».

والقضايا السياسية مهمة، لكن تدعيمها يتوقف على مدى شعور الناخبين بالراحة الوجدانية تجاه مرشح ما، والرسالة التي يطرحها، والثقة بأن المرشح سيحصل على دعمهم، وهذا هو ما يجعل القائمين باستطلاعات الرأي يسألون الناخبين أسئلة، مثل: «أي المرشحين تفضل تناول مشروب معه؟»، أو «أيهم تشعر بأنك ستقاتل من أجله؟»، والإجابات عن هذه الأسئلة يمكن أن تكون، على عدة أنحاء، أكثر حسماً في التفضيلات الانتخابية من الإجابات عن أسئلة بشأن سياسات معينة، إنها تستهدف الطريقة التي يشعر بها الناخبون تجاه أنفسهم، ومستويات راحتهم مع الذين يسعون إلى قيادتهم.

Ad

ففي عام 1984، أتذكر حفل عشاء للأميركيين الإيطاليين لم يحصل فيه «والتر مونديال»، المرشح «الديمقراطي» في ذاك الوقت، على تصفيق إلا حين ذكر اسم الإيطالي المرشح معه نائباً، ثم مضى يبسط طائفة واسعة من السياسات التي كان مثالية لمستمعيه، لكنه لم يقم رابطة وجدانية بهم قط، لكن رونالد ريغان، حين جاء دوره في الصعود إلى منصة الحديث، بدأ الحديث عن جدته «التي جاءت إلى أميركا بلا شيء، عدا آمالها وأحلامها وكدحت، إني أقف أمامكم وراثاً لأحلامها ومستفيداً من كدحها»، وفاز ريغان بأصوات الأميركيين الإيطاليين.

ثم في سباق بوش الابن ضد آل غور ثم ضد جون كيري، استطاع ابن الرئيس السابق أن يصور نفسه باعتباره من ملح أرض تكساس الناطق بلهجتها، وتحدث ببساطة وتلقائية مع الناخبين، ولذا كان «بوش» أقرب إلى نفوس الجمهور من آل غور وجون كيري، ثم هناك سباق ترامب وكلينتون الذي أدى فيه ملياردير نيويورك دور وسمات شخص من خارج المؤسسة السياسية، غاضبا ومدافعا عن المنسيين، ويخوض السباق ضد الصفوة الحضرية.

لقد فاز ترامب لأن خصمه كانت مرشحة لا يمكنها أن تؤدي أي دور، ما عدا الذي أصبحت عليه امرأة من النخبة الحضرية، التي نُظر إليها باعتبارها لا تشعر بجموع الشعب الغاضبين الذين يشعرون أنه تم التخلي عنهم، بل وصفت كلينتون مؤيدي ترامب من الطبقة العاملة بأنهم «محل رثاء»، وهذا أضر بها.

ولا شك أن سياسات «مونديال» و«غور» و«كيري» و«كلينتون»، كانت أفضل بكثير لناخبي الطبقة العاملة من كل عرق، لكن لم يُنظر إليهم باعتبارهم مرشحين يفهمون محنة الناخبين، ويبالون حقاً بهم، أما في انتخابات هذا العام فلن يكون لدى «الديمقراطي» جو بايدن المشكلة نفسها التي لاحقت غور وكيري وكلينتون، فرغم قضائه نحو خمسة عقود في واشنطن، حافظ بايدن على شخصية «الشخص العادي» المتعاطف.

ولطالما جادلت بأن «الديمقراطيين» بحاجة إلى تعزيز تقاربهم مع الناخبين ليصلوا إلى الطبقة العاملة من البيض، وبايدن، مثل الرئيس الذي عمل نائباً له، في وضع جيد ليفوز في نوفمبر المقبل، فمؤسسة الحزب «الديمقراطي» تقف إلى جانبه، ويقف إلى جانبه أيضاً معظم جماعات الناخبين الذين صوتوا لـ«الديمقراطيين» في الانتخابات القليلة الماضية.

صحيح أن الناخبين السود عبروا عن عدم ارتياحهم لسجله في مجلس الشيوخ، لكن «بايدن» اعتذر عن بعض سياساته السابقة، ثم أظهر الناخبون السود تأييدهم القوي له، والتقدميون في الحزب لا يستسيغون تقاعس «بايدن»، عن تبني بعض قضاياهم المحورية مثل الرعاية الصحية للجميع والتعليم الجامعي العام المجاني، وإقرار صفقة خضراء جديدة، لكن «بايدن» عمل للتوصل إلى بعض التوافق مع التقدميين الذين اتبع معظمهم مسعى بيرني ساندرز في دعم المرشح «الديمقراطي»، وبسبب التعاطف الذي يبديه بايدن وقصته الشخصية التي يخبر بها الناس، فمن المقرر أن يستعيد تأييد عدد كبير من ناخبي الطبقة العاملة من البيض، الذين شعروا أن الديمقراطيين تخلوا عنهم.

لكن ما زالت هناك ثلاثة أشهر، وقد يتغير الكثير، وجائحة "كوفيد-19" والسلوك غير المتوقع للإدارة، على سبيل المثال، قد يخلقان حالة من الفوضى في هذا السباق، لكن هذه العوامل قد تضر وقد تنفع، فقد تعززت مكانة «بايدن» بفضل المعالجة البائسة لأزمة كورونا، التي انتهجتها الإدارة، غير أن الجائحة قيدت قدرة بايدن على القيام بالشيء الذي يجيد عمله، وهو مقابلة الناس وإبداء التعاطف معهم، وتوسيع قاعدة داعميه.

وهناك بالطبع عوامل مجهولة قد ترجح إحدى الكفتين قبل نوفمبر المقبل، مثل حدوث أزمة خارجية أو داخلية جديدة، سواء كانت حقيقية أو مصطنعة أو تدخلا أجنبيا، ومع خوف كثير من الناخبين من الإصابة بالمرض، سعت بعض الولايات إلى توسيع إمكانية التصويت بالبريد، وهذا واجه معارضة شديدة من «الجمهوريين»، وتزايد القلق بسبب إجراءات «تقليص الكلفة»، التي اتخذها المدير المعيّن حديثاً لخدمة البريد.

ومع انتهاء المؤتمرات القومية للحزبين، بدأ السباق إلى نوفمبر فعلياً، وستؤدي الاختلافات في السياسة دوراً للبعض، لكن بالنسبة إلى كثير من الناخبين ستؤثر الإجابات الخاصة بالاعتبارات الأخرى في تصويتهم، مثل أي المرشحين يشعر معه الناخب براحة أكبر، وأيهم يثق به، وهل سيصوتون لأنهم يخافون الآخرين، أم يرغبون في إنهاء صفحة الخلافات؟ الرئيس ترامب يراهن على الخيار الأول، وبايدن يراهن على الخيار الثاني.

* رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن