أشتغلُ على عمل تاريخي، يتناول آخر الثلاثينيات في الكويت، وأجهد في مساعدة أحد أبطالي، متعاطفاً معه لتوصيل رسائل حبه لمحبوبته، يوم كان المجتمع الكويتي يُسمّي الفتاة التي تُخرج رأسها من باب البيت، لتنظر في السكّة بـ «الطلّلة»، وبالتالي تُسيء هذه الفتاة، وتُلحق سمعة بائسة بنفسها وأخواتها وعائلتها. لكن، وفي الآن نفسه، أعيش لحظة اللاحدود الكونية، والتي تصل كل البشر بكل البشر، وبعديد من الوسائل وبالمجان، سواء كان ذلك كتابة أو صوتاً أو رؤية. صغر العالم كثيراً ولم يعد قرية كونية، بل أصبح «لحظة كونية -Global Moment»، وما عاد من شخص يعيش حدود نفسه ومجتمعه ووطنه، إنما يعيش الإنسان لحظة المواطن الكوني، والمواطن الرقمي، وما أسمّيه المواطن «المحلي/ العالمي - المحعالمي».

هذا التحول الإنساني الهائل رمى بظلاله على العالم، وأثّر في الصغير قبل الكبير، ولذا صار التوزع والتشتت والقلق وحتى التشاؤم، لدى البعض، جزءاً من مسلك الإنسان، وجاءت جائحة كورونا، لتأخذ البشر إلى مخاوفها وأوجاعها وحتى فتكها بالبعض الذي أدى بحياة مئات الآلاف! هذه الحالة، وبسبب الهلع الذي صاحبها، ولم يزل، وصور الموتى الذين يموتون ويُدفنون دون أن يُتاح لأقرب أقربائهم النظر إليهم وتوديعهم، بسبب الحجر المنزلي، وحظر التجول، ومبدأ التباعد الاجتماعي، مسّت وأثّرت وقست على الصغير قبل الكبير، وربما كان وقعها على جيل الناشئة والشباب مزلزلاً!

Ad

ابنتي الأصغر، فادية، في السنة الدراسية الثانوية النهائية، كانت وصديقاتها، وملايين الطلبة حول العالم، كانوا يخططون، بشكل جنوني، لأن يودعوا مرحلة الدراسة الثانوية بكل أنواع التوديع، من تقديم الامتحانات الأخيرة، ومن لعب وحفلات وتصوير، وشطانة ومقالب، ولملمة ذكريات المدرسة والدراسة وزملاء الدراسة والمدرسين والعاملين بالمدرسة، وحتى كتابات ورسومات جدران الفصول الدراسية. كانوا يخططون منذ بدء العام الدراسي، فترك المدرسة بشكل نهائي والانتقال لمرحلة الجامعة أو العمل، هما حد فاصل وكبير في حياة كل إنسان، وهناك من يرى أن أجمل الذكريات ستبقى ذكريات المدرسة! كانوا لا يتوقفون عن التخطيط لحفل التخرج، وملابس التخرج، وقبعات التخرج، وموسيقى التخرج وكلمات التخرج، وصور التخرج! وفجأة خرج العالم عن سكة سيره، وتوقف عن الدوران، فجأة انقطع وصل الإنسان بالإنسان، وصار على كل شخص أن يحمي نفسه من كل شخص. وقف العالم مقلوباً على رأسه، وما عاد قادراً على أن يخطو للأمام، ولا هو بمستطيع أن يبقى في موقفه ومكانه.

فجأة، برز وجه كورونا، وتحدى ولم يزل يتحدى البشر بأن يكتشفوا ما يقِف بوجهه، ويبطل بطشه بالبشر. ومع هذا الوضع الشائك، صار على الإنسان أن يعتاد الجديد «The New Normal»، ولأن الإنسان عبد لما اعتاده، فإنه ليس من السهل على الجميع أن يتكيّف مع الوضع الجديد، وكم وكم عانى بشر حول العالم من عدم قدرتهم على تقبل الجديد، وضعفهم أمام مخاوف القادم.

وقف الإنسان عاجزاً أمام مخلوق شبه ميت، وقف مشلولاً وبات مطالَباً بأن يغيّر حياته، وأن يقبل وضعاً جديداً ومربكاً، وأن يعتاد التعايش مع هاجس وجود عدو خبيث يتربص به.

دول كثيرة في العالم، حاولت أن تواسي طلبتها الخريجين، وأن تقيم شيئاً من الاحتفال يشعرهم ربما بتميزهم، رغم كل شيء، وكان لاحتفال الولايات المتحدة الأميركية بتخرّج طلبتها وقع كبير في العالم، خصوصاً بمشاركة أكثر من رئيس أميركي فيه، بالإضافة إلى أهم وجوه الغناء والسينما والموسيقى والمسرح. لذا أشدُّ على يد سمو رئيس مجلس الوزراء الشيخ صباح الخالد، بإقامة حفل تخرج لجميع طلبة المدارس الحكومية ومدارس القطاع الخاص، لتخريج أكثر من (40.000) طالب وطالبة، ومؤكد أن حفلاً كبيراً كهذا سيترك أثراً طيباً ورائعاً في نفوس أبنائنا الطلبة، ويرسل رسالة هامة إليهم بوجود القيادة السياسية إلى جانبهم.

مبروك التخرج لفادية وصديقاتها، ولكل أبناء جيلها، ومؤكد أن 2020 سيبقى ذكرى كبيرة!