دخل دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي في 2017 وهو مقتنع بضرورة زعزعة السياسة الخارجية الأميركية. تكلم الرئيس الجديد في خطاب تنصيبه وعرض لمحة قاتمة عن سجل الولايات المتحدة فقال: "طوال عقود، حرصنا على إغناء الصناعات الخارجية على حساب الصناعة الأميركية ودعمنا جيوش البلدان الأخرى في وقت سمحنا باستنزاف قدرات جيشنا بشكلٍ مؤسف جداً. لقد دافعنا عن حدود دول أخرى ورفضنا في المقابل الدفاع عن دولتنا. أنفقنا تريليونات الدولارات ما وراء البحار في حين أصبحت البنى التحتية الأميركية في حالة من الخراب والتدهور. جعلنا البلدان الأخرى غنية وبدّدنا ثروة بلدنا وقوته وثقته بنفسه في الخارج... لكن اعتباراً من هذا اليوم، سيكون شعارنا أميركا أولاً!".

أمضى ترامب ثلاث سنوات ونصف السنة وهو يدير السياسة الخارجية الأميركية ويبدو أنه لم يغيّر رأيه بعدُ، فاستخدم منطقاً مشابهاً لاستعمال القوة العسكرية حين خاطب العسكريين المتخرجين في أكاديمية "ويست بوينت" في وقتٍ سابق من هذه السنة، فقال: "نحن نُجدد المبادئ الأساسية كي لا نربط مهمّة الجندي الأميركي بإعادة بناء الدول الأخرى، بل بالدفاع عن وطننا من الأعداء الخارجيين. نحن ننهي حقبة من الحروب اللامتناهية ونستبدلها بتجديد التركيز على أهمية الدفاع عن المصالح الأميركية الحيوية. ليس من واجب القوات العسكرية الأميركية أن تحلّ الصراعات القديمة في أراضٍ بعيدة لم يسمع بها معظم الناس. نحن لسنا شرطي العالم".

Ad

يمكن استخلاص جزء كبير من العناصر التأسيسية في طريقة تعامل ترامب مع العالم انطلاقاً من هذين الخطابَين. من وجهة نظره، غالباً ما تكون السياسة الخارجية مصدر إلهاء مكلف. تورطت الولايات المتحدة في عمليات خارجية مفرطة وتدهور وضعها محلياً لهذا السبب. كذلك، كانت مشاكل التجارة والهجرة كفيلة بالقضاء على الوظائف والمجتمعات المحلية. في الوقت نفسه، استفادت بلدان أخرى من الولايات المتحدة، لا سيما الدول الحليفة لها، ولم يتلقَ الأميركيون شيئاً مقابل جهودهم. باختصار، تفوّقت تكاليف القيادة الأميركية على منافعها.

لكن لا تُقدّر هذه الرؤية العالمية قيمة ما تحقّق في معظم فترات القرن الماضي من وجهة النظر الأميركية: غياب الحرب بين القوى العظمى، وانتشار الديمقراطية في معظم بلدان العالم، وزيادة النمو بما يفوق حجم الاقتصاد الأميركي بتسعين مرة، وارتفاع متوسط العمر المتوقع للأميركي العادي بمعدل 10 سنوات.

تغفل تلك الرؤية أيضاً عن انتهاء الحرب الباردة، أي أكبر صراع في تلك الحقبة، بطريقة سلمية وبشروط تصبّ بكل وضوح في مصلحة أميركا، ولا تعترف بأن هذه الإنجازات كلها ما كانت لتتحقق لولا القيادة الأميركية وحلفاء الولايات المتحدة. ورغم هذا الانتصار، تواجه أميركا حتى الآن تحديات عالمية متعددة تؤثر على البلد ومواطنيه (بعيداً عن الإرهاب الإسلامي الراديكالي الذي سلّط عليه ترامب الضوء دون سواه في خطاب تنصيبه)، كما أن الشراكات والدبلوماسية والمؤسسات العالمية تُعتبر عوامل قيّمة لتحقيق تلك الأهداف.

تبرز فرضيات مشبوهة أخرى في نظرة ترامب إلى العالم، إذ تُعتبر التجارة في رأيه عاملاً سلبياً مطلقاً ساعد الصين على الاستفادة من الولايات المتحدة بدل اعتبارها مصدراً لوظائف لائقة كثيرة في مجال التصدير وسبباً لتنويع الخيارات المتاحة مقابل تراجع الكلفة على المستهلك الأميركي وانخفاض معدلات التضخم محلياً.

تُنسَب المشاكل الأميركية الداخلية في معظمها إلى تكاليف السياسة الخارجية: قد تكون تلك التكاليف البشرية والمادية باهظة، لكن تراجعت حصة الناتج الاقتصادي المخصصة للأمن القومي في العقود الأخيرة وأصبحت أقل بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الباردة، علماً أن الأميركيين استفادوا في تلك الحقبة من الأمن والازدهار في آن. وتكثر الأسباب التي تبرّر انتقاد الحروب في أفغانستان والعراق لكن لا يمكن لومها على حالة المطارات والجسور الأميركية.

صحيح أن الأميركيين ينفقون المال على الرعاية الصحية والتعليم أكثر بكثير من نظرائهم في الدول المتقدمة الأخرى، لكنّ وضع المواطن الأميركي العادي ليس أفضل من الآخرين، بعبارة أخرى، لن يؤدي تخفيض الالتزامات الخارجية بالضرورة إلى إصلاح الأوضاع الداخلية.

انتهاء الحرب الباردة

لا يمكن فهم هذه النظرة المشوّهة إلى الأمن القومي الأميركي إلا عبر استيعاب السياق الذي مهّد لنشوء ظاهرة "الترامبية". خرجت الولايات المتحدة من الحرب الباردة من دون ترك أي خصوم وراءها، لكنها لم تتوصل أيضاً إلى إجماع حول طريقة استعمال قوتها الهائلة. كانت سياسة الاحتواء البوصلة التي وجّهت السياسة الخارجية الأميركية طوال أربعة عقود لكنها بدت غير نافعة في الظروف المستجدة، ووجد صانعو السياسة والمحللون صعوبة في تصميم إطار عمل جديد.

ونتيجةً لذلك، تبنّت أقوى دولة على الإطلاق مقاربة مفككة للتعامل مع العالم وقد أدى هذا النهج مع مرور الوقت إلى توسّع الطموحات وترسيخ مشاعر الإرهاق. خلال التسعينيات، خاضت الولايات المتحدة حرباً محدودة ناجحة لعكس تداعيات العدوان العراقي في الخليج العربي وأطلقت مبادرات إنسانية في دول البلقان وأماكن أخرى (كان بعضها ناجحاً نسبياً وبعضها الآخر فاشلاً). وبعد الهجوم الإرهابي في 11 سبتمبر 2001، أرسل الرئيس جورج بوش الابن أعداداً كبيرة من القوات العسكرية إلى أفغانستان والعراق، فخاض بذلك حربَين اختياريتَين غير مدروستَين (كانت حرب العراق فاشلة منذ البداية، واتّضح فشل حرب أفغانستان مع مرور الوقت). تفوّقت التكاليف البشرية والاقتصادية على أي منافع محتملة في تلك الصراعات. وخلال عهد أوباما، أطلقت الولايات المتحدة عمليات مكلفة أو تابعت حملات سابقة وعجزت في الوقت نفسه عن توضيح نواياها الحقيقية.

ترسّخت مشاعر الإحباط المرتبطة بالحملات الخارجية المفرطة عبر نزعات محلية محددة، لا سيما بعد الأزمة المالية في عام 2008. شهدت أجور الطبقة الوسطى شكلاً من الركود وأدت خسارة الوظائف وإغلاق المصانع على نطاق واسع إلى نشوء عدائية محدودة لكن قوية تجاه التجارة (مع أن زيادة الإنتاج المرتبطة بالابتكارات التكنولوجية كانت المذنبة الأولى عما حصل). بشكل عام، سادت قناعة واسعة بفشل الدولة بسبب عدم اهتمامها بحماية العمال الأميركيين محلياً وتطبيق سياسة خارجية طموحة بدرجة مفرطة، وهي مقاربة بعيدة كل البعد عن مصالح البلد الحيوية وراحة المواطنين.

ابتعاد كامل عن السياسات المألوفة

كانت السياسات الخارجية خلال عهود أول أربعة رؤساء بعد حقبة الحرب الباردة (جورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما) تجمع بين المدارس الفكرية الأساسية التي وجّهت طريقة تعامل الولايات المتحدة مع العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تشمل الواقعية (يُشدد هذا المبدأ على استقرار العالم عبر الحفاظ على ميزان القوى ومحاولة تحديد مسار السياسات الخارجية، لا الداخلية، في البلدان الأخرى)، والمثالية (زيادة التركيز على نشر حقوق الإنسان ورسم المسار السياسي المحلي للدول)، والأعمال الإنسانية (التركيز على تقليص مظاهر الفقر والأمراض والاعتناء باللاجئين والنازحين).

اختلف الرؤساء الأربعة في مستوى تركيزهم على هذه المبادئ لكنهم حملوا هدفاً مشتركاً. في المقابل، يختلف دونالد ترامب عنهم جميعاً.

يتذمر ترامب دوماً لأن الولايات المتحدة أخفقت في جهودها السابقة وامتنعت عن مصادرة النفط العراقي، لكنه أكثر هوساً بعد بالموازين التجارية الثنائية، مما يعني زيادة الصادرات الأميركية مقابل تخفيض الواردات، مع أن حجم العجز يخسر أهميته مادامت البلدان الأخرى تلتزم بالقواعد المعتمدة وتستطيع الولايات المتحدة أن تقترض لتغطية النقص (تتلقى جميع البلدان مزايا نسبية وتُسجّل معدلات مختلفة من الادخار والإنفاق، مما يؤدي إلى نشوء عجزٍ لدى البعض وفائض لدى البعض الآخر).

ينتقد ترامب أيضاً حلفاء بلده لأنهم لا ينفقون أموالاً إضافية على جيوشهم ويُخبر أعضاء حلف الناتو بأن امتناعهم عن إنفاق 2 في المئة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع يعني أنهم يدينون بالمال للولايات المتحدة (لكنها فكرة خاطئة!).

على صعيد آخر، سارع الرئيس الأميركي إلى إلغاء التدريبات العسكرية الواسعة التي تُعتبر محورية في التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لأنها كانت مكلفة أكثر من اللزوم بحسب رأيه. وفي المفاوضات التجارية مع الصين، بدا مهتماً بإقناع بكين بشراء منتجات زراعية أميركية معيّنة أكثر من معالجة مشاكل بنيوية مُلحّة، مع أن حل هذه المسائل كان سيفيد الشركات الأميركية والاقتصاد الأميركي ككل.

يبرز الاختلاف بين ترامب والرؤساء السابقين بالدرجة نفسها على مستوى أدوات السياسة الخارجية. كان الرئيسان الجمهوريان والرئيسان الديمقراطيان قبله مقتنعين بتعددية الأطراف عبر عقد التحالفات أو توقيع المعاهدات أو إنشاء المؤسسات. لم تكن هذه السياسة تعني تجنّب التحركات الأحادية الجانب بالإجماع، بل أدرك جميع الأفرقاء أن التدابير المتعددة الأطراف تُضخّم النفوذ الأميركي في معظم الحالات وأن المعاهدات تضفي بُعداً متوقعاً على العلاقات الدولية. تجمع النزعة التعددية الموارد أيضاً لمعالجة التحديات المشتركة بطريقة لا تضاهيها أي جهود وطنية فردية.

اعتاد ترامب في المقابل الانسحاب من الالتزامات المشتركة أو التهديد بالتخلي عنها. وتطول لائحة الاتفاقيات التي انسحب منها.

ترامب متعطّش لزعزعة المعايير القائمة

لم يفهم ترامب حقيقة المصالح الأميركية وأفضل الطرق لتحقيقها، وقد أثّر سوء الفهم هذا على طريقة تعامل إدارته مع ملفات أخرى، حتى أنه أعاق مسائل كثيرة في معظم الأحيان. فيما يخص الجيش، اتّضحت رغبة ترامب في إثارة الاضطرابات عندما قرر سحب الجنود أو هدّد بسحبهم من دون التفكير بسبب وجودهم في الخارج أو عواقب انسحابهم. يتخذ جميع الرؤساء قراراتهم حول استعمال القوة العسكرية بحسب معطيات كل حالة. لكن بدا ترامب قلقاً من التورط في التزامات عسكرية جديدة، على غرار أوباما في هذا الملف بالذات، فبقيت نزعته إلى استعمال القوة ضد سورية وإيران وجيزة ومحدودة في نطاقها، ومهّدت تهديداته بفتح النار على كوريا الشمالية إلى عقد قمة بين الطرفين مع أن بيونغ يانغ تابعت العمل على تطوير ترسانتها النووية والصاروخية.

في غضون ذلك، امتدت دعوات الانسحاب التي أطلقها ترامب إلى مناطق الصراع وأماكن أخرى يتمركز فيها الجنود الأميركيون منذ عقود لمنع اندلاع الحروب. في سورية، تُرِك شركاء الأميركيين الأكراد لمصيرهم. وفي أفغانستان، لم يفكر الكثيرون على ما يبدو بمصير الحكومة في كابول بعد رحيل الجنود الأميركيين. لكن لا يمكن اعتبار إخفاقات الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وضرورة تجنب حروب مماثلة في المستقبل مشابهة لتمركز القوات الأميركية في ألمانيا أو اليابان أو كوريا الجنوبية، فقد ساهم الجنود هناك في الحفاظ على الاستقرار طوال عقود. كان إعلان الإدارة الأميركية في شهر يونيو الماضي عن سحب 9500 جندي من ألمانيا يتماشى بالكامل مع نفور ترامب من الالتزامات العسكرية الخارجية.

تعكس هذه الخطوات لامبالاة ترامب تجاه الحلفاء. ترتكز التحالفات دوماً على الاهتمام بأمن البلدان الأخرى بقدر الاهتمام بالأمن الذاتي، لكن يوضح شعار "أميركا أولاً" أن حلفاء الولايات المتحدة يأتون في المرتبة الثانية. أدى تركيز ترامب المفرط على تبديد تكاليف الوجود العسكري في الخارج إلى نشر رسالة مسيئة مفادها أن الدعم الأميركي للحلفاء أصبح مشروطاً ومبنياً على المصالح الشخصية. تفاقمت المشكلة أيضاً نتيجة تعامله الودّي مع الخصوم والمنافسين، إذ كثيرا ما كان ودوداً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون أكثر من نظرائهم الديمقراطيين، وزاد الوضع سوءاً حين تردد ترامب في إعادة التأكيد على التزام الولايات المتحدة بالمادة الخامسة من بنود حلف الناتو، أي البند المرتبط بالدفاع الجماعي. وحتى التدخّل الروسي في الديمقراطية الأميركية لم يمنع ترامب من التصادم مع القادة الأوروبيين أكثر من بوتين نفسه.

في ملف التجارة، رفضت الإدارة الأميركية الاتفاقيات المتعددة الأطراف، بما في ذلك "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ" التي كانت لتجمع بين بلدان تمثّل 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتضغط على الصين لتلبية أفضل المعايير الاقتصادية. لطالما لجأت هذه الإدارة إلى إقرار رسوم جمركية أحادية الجانب، حتى أنها فرضتها على حلفائها واستعملت تبريرات قانونية مشبوهة.

في ملف الصين، تراجع استعداد ترامب لتحدّي بكين في المجال التجاري نتيجة سياسته المتخبطة. واستعملت الإدارة الأميركية لهجة صدامية لكنها أضعفت أي نفوذ تملكه عند انسحابها من "الشراكة العابرة للمحيط الهادئ" وإصرارها على انتقاد حلفائها في آسيا وأوروبا (بدل تطويعهم)، كما أنها كشفت صراحةً عن تعطشها إلى عقد اتفاق تجاري ضيّق يُلزِم الصين بقبول أعداد إضافية من الصادرات الأميركية قبيل حملة إعادة انتخاب ترامب.

على صعيد آخر، كانت انتقادات الإدارة الأميركية بطيئة أو غير متماسكة تجاه الصين على خلفية حملتها القمعية في هونغ كونغ وطريقة تعاملها مع جماعة الإيغور وقد بقيت شبه جامدة حين فرضت بكين سيطرتها على بحر الصين الجنوبي. في غضون ذلك، تراجعت القدرة التنافسية الأميركية مقارنةً بالصين نتيجة انخفاض الإنفاق على الأبحاث الأساسية محلياً، وفرض حدود جديدة على عدد المهاجرين الماهرين المسموح بدخولهم إلى الولايات المتحدة".

السلام في الشرق الأوسط

في الشرق الأوسط، أدى تشويش ترامب إلى إضعاف الأهداف الأميركية وزيادة احتمال زعزعة الاستقرار. طوال خمسة عقود، طرحت الولايات المتحدة نفسها كوسيطة صادقة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأدرك الجميع دوماً أنها أقرب إلى إسرائيل، لكنها لم تكن قريبة بما يكفي كي تمتنع عن كبح جماح الإسرائيليين عند الحاجة.

وجاءت إدارة ترامب وهي مقتنعة بضرورة تبنّي مقاربة جديدة، فلم تعد تدّعي الاضطلاع بهذا الدور بل تخلّت عن أي عملية سلام حقيقية مقابل سلسلة من الحقائق التي فرضها الأمر الواقع بناءً على القناعة المغلوطة التي تعتبر الفلسطينيين أضعف من أن يقاوموا وتتوقع من الحكومات العربية السنّية الإغفال عما يحصل نظراً إلى رغبتها في التعاون مع إسرائيل ضد إيران. عاقبت الإدارة الأميركية الفلسطينيين، فنقلت السفارة الأميركية إلى القدس، واعترفت بضم هضبة الجولان إلى إسرائيل، وطرحت "خطة سلام" تُمهّد لضم أجزاء إضافية من الضفة الغربية. تجازف هذه السياسة بزعزعة استقرار المنطقة وتُبدد أي فرص بعقد السلام مستقبلاً وتُهدد مصير إسرائيل كدولة ديمقراطية ويهودية.

إيران

في الملف الإيراني، نجحت الإدارة الأميركية في عزل نفسها أكثر مما عزلت طهران، ففي عام 2018، انسحب ترامب بشكلٍ أحادي الجانب من الاتفاق النووي وأطلق جولة جديدة من العقوبات في الوقت نفسه. وأدت تلك العقوبات إلى تضرر اقتصاد إيران، وكان مقتل الجنرال قاسم سليماني انتكاسة لطموحاتها الإقليمية، لكن لم تكن هذه الأحداث كافية لإحداث تغيرات جوهرية في سلوك طهران، محلياً أو خارجياً، أو لإسقاط النظام. وبدأت إيران اليوم تتجاوز الحدود المسموح بها في برامجها النووية بموجب "خطة العمل الشاملة المشتركة"، وهي تتابع محاولاتها لإعادة رسم معالم الشرق الأوسط عبر التدخل في العراق ولبنان وسورية واليمن.

ما الوضع الطبيعي الجديد؟

واجه ترامب مجموعة من المصاعب في بداية عهده الرئاسي: تنامي المنافسة بين القوى العظمى، وزيادة عدائية الصين، واضطراب الشرق الأوسط، وتسلّح كوريا الشمالية نووياً، وتعدد الصراعات داخل البلدان، وانتشار الفوضى في الفضاء السيبراني، والتهديدات الإرهابية الكامنة، وتسارع التغير المناخي، ومشاكل كثيرة أخرى. اليوم، تبدو الاضطرابات أسوأ بكثير. زادت معظم المشاكل التي ورثها ترامب سوءاً لدرجة أن يكتفي بتجاهل جزء كبير منها، لكنّ تجاهله لم يكن موقفاً حميداً.

كذلك، تراجعت مكانة الولايات المتحدة في العالم نظراً إلى قلة كفاءتها في التعامل مع أزمة «كوفيد-19»، وإنكارها للتغير المناخي، ورفضها للاجئين والمهاجرين، واستمرار حوادث إطلاق النار الجماعي ومظاهر العنصرية الراسخة. لم يعد البلد يُعتبر أقل جاذبية وكفاءة فحسب، بل إنه خسر جزءاً كبيراً من مصداقيته حين انسحب من الاتفاقيات المتعددة الأطراف وأبعد نفسه عن حلفائه.

في المقابل، تغيرت نظرة الحلفاء إلى الولايات المتحدة. ترتكز التحالفات عموماً على المصداقية والتصرفات المتوقعة، ومن المستبعد أن ينظر أي حليف إلى الولايات المتحدة كما كان يفعل سابقاً. سبق أن زُرِعت بذور الشك في كل مكان: قد تتكرر الأخطاء الحاصلة اليوم في أي وقت. بعبارة أخرى، يصعب استرجاع العرش بعد التنازل عنه! كذلك، تتراجع الإنجازات المحتملة لأي رئيس جديد بسبب الوباء المستمر وارتفاع نسبة البطالة وتعمّق الانقسامات السياسية فيما يحارب البلد لمعالجة مظاهر الظلم العنصري واللامساواة. من المنتظر أن تتصاعد الضغوط التي تدعو إلى التركيز على حل المشاكل الداخلية مقابل الحد من الطموحات الخارجية.

مع ذلك، لا يزال ترميم السياسة الخارجية الأميركية ممكناً جزئياً، وتستطيع الولايات المتحدة أن تعيد بناء علاقاتها مع حلفائها في الناتو وفي آسيا أيضاً، ويمكنها أن تُجدد التزامها بعدد من الاتفاقيات التي انسحبت منها.

لكن لا مجال للعودة إلى الوضع السابق. قد لا تكون مدة السنوات الأربع كافية لمسح التاريخ، لكنها طويلة بما يكفي لتغيير مسار الأحداث بطريقة لا رجعة فيها. أصبحت الصين أكثر غنىً وقوة، وباتت كوريا الشمالية تملك أسلحة نووية إضافية وصواريخ متطورة، وتفاقمت مظاهر التغير المناخي، وانتقلت السفارة الأميركية إلى القدس، وأصبح نيكولاس مادورو أكثر ترسخاً في فنزويلا، على غرار بشار الأسد في سورية. هذا هو الواقع الجديد!

كذلك، لن يكون استرجاع الماضي مناسباً في أي مجال نظراً إلى حجم الفوضى التي أحدثها عهد ترامب. تحتاج الولايات المتحدة إلى إطار عمل جديد للتعامل مع الصين التي تزداد عدائية وقمعاً وإلى مبادرات لتضييق الفجوة بين حجم التحديات العالمية (التغير المناخي، والأمراض المعدية، والإرهاب، والانتشار النووي، والحروب الإلكترونية، والتجارة) والتدابير الرامية إلى معالجتها.

رئيس الدمار!

ماذا لو أُعيد انتخاب ترامب في نوفمبر؟ سيشعر الرئيس حينها ببهجة عارمة بعد فوزه الانتخابي وقد يعتبره تفويضاً كاملاً له ويميل على الأرجح إلى ترسيخ العناصر المحورية من السياسة الخارجية التي رسمها خلال ولايته الأولى. في مرحلة معينة، قد يبدو الاضطراب هائلاً لدرجة أن يصبح التراجع عنه مستحيلاً، فيتحول «رئيس التشويش» حينها إلى «رئيس الدمار»!

قد تضعف المعايير والتحالفات والمعاهدات والمؤسسات القائمة أو تتلاشى تدريجياً، وقد يصبح العالم أكثر قرباً من مفهوم «نضال الكل ضد الكل» للفيلسوف توماس هوبزيان (توقّع مسؤولان بارزان في إدارة ترامب هذا الوضع منذ مايو 2017 في افتتاحية صحفية في «وول ستريت جورنال»: «العالم ليس مجتمعاً عالمياً بل ساحة تتحالف فيها الدول والجهات غير الحكومية والشركات وتتنافس في ما بينها للتفوق على غيرها»).

قد يصبح الصراع أكثر شيوعاً والديمقراطية أقل رواجاً، أو ربما يتسارع الانتشار النووي فيما تخسر التحالفات قدرتها على طمأنة الأصدقاء وردع الخصوم. حتى أن نطاقات النفوذ قد تتوسّع وتصبح التجارة أكثر انضباطاً، فتنمو بوتيرة أبطأ في أفضل الأحوال أو ربما تنكمش في ظروف معينة. على صعيد آخر، قد يبدأ الدولار الأميركي خسارة مكانته الفريدة من نوعها في الاقتصاد العالمي مع ظهور خيارات بديلة أكثر أهمية أو عملات رقمية متنوعة، وقد تصبح المديونية الأميركية عبئاً متزايداً. أخيراً، لا مفر من أن ينتهي النظام العالمي القائم منذ 75 سنة وسنصبح حينها أمام سؤال محوري واحد: أي نظام سيحل مكانه، إذا وُجِد؟

يتوقف جزء كبير من الأحداث المرتقبة على المسار الذي تتخذه الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة. حتى أبسط تعديل سيجعل سياسة ترامب الخارجية تبدو شائبة وسيبقى تأثيره محدوداً في مطلق الأحوال. لكن إذا بقيت سياسته الخارجية على حالها طوال أربع سنوات أخرى، فسيثبت ترامب حينها أنه رئيس يتمسك بالمبادئ نفسها. إذا تحقق هذا السيناريو، فسيصبح النموذج الذي تبنّته الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية حتى عام 2016 شاذاً عن القاعدة، مما يعني أنه استثناء قصير نسبياً عن التقاليد القديمة التي كانت ترتكز دوماً على العزلة والسياسة الحمائية والقومية الأحادية الجانب. لكن استناداً إلى التجارب التاريخية السابقة، يستحيل ألا نعتبر هذا الاحتمال الأخير وضعاً مقلقاً لأقصى الدرجات.

*ريتشارد هاس