في البداية كانت العنصرية تعتمد على النمطية بصورة مطلقة، فاللون يدل على المنشأ الذي بدوره يدل على سبب الاستقدام ومن ثم نوعية العمل! كان السود عبيداً يستوردون من الخارج للداخل لشغل أعمال محددة، ويعتمد عليهم الإقطاعيون وأصحاب الحقول الزراعية والمشاريع الصناعية، بالإضافة إلى خدمة البيوت والرعي وغيرها، وأدى بيع وشراء العبيد دورا اقتصاديا كبيرا، فكان أحد أسباب الثراء والجاه والسلطة لأكبر وأهم الأسر الأرستقراطية في الجنوب الأميركي.

العبودية ذاتها في ذلك الوقت مفهوم نخبوي غير محدود، فليس هناك حد أو سقف لما يستطيع المالك فعله أو عمله بعبيده، فالمُلكية مطلقة ظرفية ومكانية وليس للعبد أي شأن من شؤونه الداخلية أو الخارجية، فهو كيان فاقد للأهلية، مُسيّر لا مخيّر، حياته مبذولة للخدمة، مكرّس للانتفاع! العبيد ثروة غير محصورة لأنهم يتطورون جسدياً ويتعلمون ويكتسبون مهارات فائقة، كما أنهم يتكاثرون فيتضاعف رأس المال تلقائيا ويتضخم الاستثمار على المدى البعيد.

Ad

أتى التعديل رقم 13 من الدستور الأميركي عام 1865 ليلغي العبودية بكل أشكالها، فلا يجوز استعباد أي كان سواء مكانيا عن طريق تقييد حرية وإرادة الفرد في التنقل والترحال، أو ظرفيا من خلال العمل بدون مقابل إلا في حالة واحدة فقط، وهي الإدانة القضائية الرسمية للفرد الناتجة عن ارتكاب فعل يجرمه قانون السلطة القضائية لينتج عن ذلك العقاب بالسجن. وجد المتاجرون أنفسهم بلا بضاعة كاسبة، فالعبيد لم يعودوا عبيدا والقانون يجرم الخطف وتقييد الحرية والانتفاع بدون مقابل، وتضخمت تكاليف الأيدي العاملة، بل أصبحت مفاهيم العمل مقابل المال وحقوق العمّال صفعة مدوية على وجوه التجّار وأصحاب الأعمال لم يتقبلوها أبداً! فتشكلت العبودية بصورة أخرى، وطوّع المفهوم ذاته ليوائم التعديل الدستوري الجديد كقطعة Puzzle وجدت أختها من خلال الاحتجاز المجازي والسجن الجماعي لكل من على جلده صبغة أو لون. بدأت الشرطة بعمليات منظمة للقبض على السود بتهم ملفقة، واحتجازهم بالسجون لأطول مدّة ممكنة بدون محاكمات أحيانا لأنهم ببساطة قوى عاملة قوية وقادرة على البناء والزراعة والقطف والعمل بلا مقابل طالما أنهم مجرمون مسجونون في سجون المقاطعة، إذ تُستخدم هذه الأفواج المُحتجزة للعمل بقوة القانون في الحقول والمصانع والمباني بدون مقابل.

لهذا نجد السود الى يومنا هذا أكثر روّاد السجون في أميركا، لأن مسألة نظامية مثل هذه لابد لها من تبعات تراكمية على الأسرة ذات البشرة السوداء، ليس بسبب الفقر وقلة حيلة الزوج الطليق بالمنظومة الأسرية والذي يدأب بطبيعة الحال على تربية أسرة بمفرده فقط، بل أيضا لتداعيات عديدة منها تدني جودة التعليم في المناطق الفقيرة التي ترتادها زوجة المسجون وأولادها، المورد المالي الوحيد واليائس لدرجة لجوء الأبناء السود اليافعين للسلوكيات الإجرامية والالتحاق بالعصابات ممّا يجعلهم عرضة للسجن أكثر من غيرهم.

النُظم القمعية المتجذرة لا تختفي بسهولة ولا تتراجع بسن القوانين المنادية بالمساواة وحقوق الإنسان، بل تطوّر نفسها بطبيعة الحال وفقا للظرف والزمن، وتتخذ من كل ثغرة أو تعديل أو تغيير في القوانين التي من شأنها خلق حياة أفضل للفئات الأقل حظاً، مخرجا للمزيد من التنكيل والاستخدام والتطويع ولكن بصيغ مختلفة وأساليب متلونة وقوانين عائمة قابلة جدا للتطويع.