ما من سيناريوهات مقلقة بنظر الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين بقدر اندلاع حرب محتملة مع الصين بسبب تايوان، فقد شهدت الأشهر الأخيرة صدور سلسلة من التقارير التي توضح مسألتين مزعجتين: يرتفع احتمال وقوع هجوم صيني على تايوان مع مرور الأيام، وقد تخسر الولايات المتحدة التي يربطها التزام أمني مبهم مع تايبيه في حال انضمامها إلى حرب مماثلة نيابةً عن تايوان.

أمام هذه التوقعات القاتمة، من المنطقي أن يتساءل عدد كبير من الأميركيين عن السبب الذي يدفع الولايات المتحدة إلى محاولة الدفاع عن جزيرة تقع على بُعد آلاف الأميال، وهو بلد ما كان يُفترض أن يصمد طوال هذه الفترة أصلاً. الجواب بسيط: قد يكون مصير تايوان كفيلاً بتحديد مصير غرب المحيط الهادئ، لكن عند دراسة هذا الاحتمال، يجب أن يفهم الأميركيون مدى صعوبة وخطورة الحفاظ على الحرية في تايوان.

Ad

لا شك أن التهديد العسكري الصيني زاد اليوم بطريقة غير مسبوقة مقارنةً بالعقود الماضية، فبدءاً من اختراق الدفاعات التايوانية الجوية والبحرية وصولاً إلى نشر قوات يمكن استعمالها لغزو تايوان والتخلي عن كلمة "سلمي" في الدعوات إلى إعادة توحيد البلدين، من الواضح أن حكومة شي جين بينغ تؤكد رغبتها في استرجاع تايوان وجعلها تحت سيطرتها مجدداً. قد لا تفعل ذلك اليوم ولا غداً، لكن لا مفر من أن تُحقق هدفها في مرحلة معينة من السنوات المقبلة، فبعدما كانت طموحات الصين تفوق إمكاناتها في الماضي، بات التوازن العسكري اليوم يرجح الكفة لمصلحتها.

وفق التقارير الصحافية، تثبت المناورات الحربية التي يقوم بها البنتاغون دوماً أن الجيش الأميركي سيجد صعوبة في التحرك بوتيرة سريعة وحاسمة لمنع جيش التحرير الشعبي من غزو تايوان، فقد اعتبر نائب مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق مايكل موريل والنائب السابق لرئيس هيئة الأركان المشتركة جيمس وينفيلد حديثاً أن أي هجوم صيني سيضع واشنطن أمام خيار صعب بين التدخل وتكبد خسائر كارثية في قضية خاسرة على الأرجح أو عدم تحريك أي ساكن ومشاهدة الجزيرة وهي تستسلم للصين.

في المقابل، قد يؤدي تبدّل ميزان القوى إلى تغيّر حسابات بكين، فحين يصبح الغزو الناجح أو توجيه إنذار أخير حول "الاستسلام أو الموت" خياراً قابلاً للتنفيذ، لا مفر من أن تزيد جاذبيته أيضاً.

لكن لماذا تهتم الولايات المتحدة بهذه التطورات كلها؟ حين أعلن ريتشارد نيكسون انفتاحه على الصين في بداية السبعينيات، كان يتوقع أن تعود تايوان الاستبدادية حينها إلى قبضة بر الصين الرئيسي يوماً، وعلى نطاق أوسع قد تبدو مجازفة الولايات المتحدة بخوض حرب مع قوة نووية بسبب جزيرة تقع على مقربة من الصين خطوة سخيفة وغير منطقية، لكنّ مساعدة تايوان للدفاع عن نفسها ترتكز على منطق ثلاثي الأبعاد.

أولاً، تُعتبر تايوان جهة أساسية للحفاظ على التوازن العسكري في منطقة غرب المحيط الهادئ كلها، حيث تشمل أول سلسلة جزر تمتد من اليابان إلى الفلبين، وحين تكون تحت سيطرة بلد صديق، ستشكّل حاجزاً طبيعياً أمام مظاهر القوة الصينية الجوية والبحرية باتجاه المحيط المفتوح، لكن حين تصبح تايوان بيد بكين، ستتحول إلى نقطة انطلاق للهيمنة على المنطقة.

تسمح السيطرة على تايوان لبكين بتوسيع نطاق صواريخها المضادة للسفن ودفاعاتها الجوية وطائراتها المقاتلة والقاذفة وأسلحة أخرى تقع على بُعد مئات الأميال الإضافية عن سواحلها، حيث ستتمكن بكين حينها من تهديد إمدادات الطاقة وخطوط التواصل البحرية في اليابان وحتى سيطرتها على جزر "ريوكيو" الجنوبية. من خلال زيادة تعقيد العمليات الأميركية الداعمة للدول الحليفة الإقليمية المتبقية، لا سيما اليابان والفلبين، قد تتساءل تلك البلدان عن إمكانية التصدي للهيمنة الصينية في حال خسارة تايوان.

ثانياً، قد تؤدي خسارة تايوان إلى انهيار المصداقية الأميركية، إذ تُعتبر هذه المصداقية مفهوماً مثيراً للجدل لكن التحالفات الأميركية في منطقة المحيط الهادئ ترتكز على القناعة القائلة إن واشنطن تستطيع حماية تلك الدول من أي أذى وتبدي استعدادها لهذا الالتزام، لكن عندما يتبيّن أن الولايات المتحدة ترفض الدفاع عن تايوان أو تعجز عن الدفاع عنها، فمن الطبيعي أن تتساءل طوكيو أو مانيلا أو سيول عن منفعة إثارة غضب الصين بسبب اصطفافها مع الولايات المتحدة. باختصار، قد تكون خسارة تايوان مرادفة لخسارة المنطقة كلها.

أخيراً، من المعروف أن تايوان بلد صغير لكنّ أهميته الإيديولوجية كبيرة، فلطالما اعتبر الحزب الشيوعي الصيني أن الديمقراطية لا تتماشى مع الثقافة الصينية، وإنه تفكير سخيف طبعاً ووجود تايوان هو أفضل إثبات على ذلك، ففي الظروف الصعبة، قامت تايبيه بكل ما قد يطلبه منها العالم، فبَنَت اقتصاداً قوياً مبنياً على السوق وخاضت عملية انتقالية ناجحة من الحكم الدكتاتوري إلى الديمقراطية. تشكّل تايوان إذاً دليلاً حياً على أن النظام الصيني منح مواطنيه الازدهار لكنه لا يزال يحرمه من الحرية.

لكن الولايات المتحدة بدأت للتو تدرك المصاعب التي ستواجهها لمنع الصين من مهاجمة تايوان أو لكبح أي هجوم من هذا النوع، وأوضح مسؤولون سابقون في البنتاغون أن الحرب في مضيق تايوان ستكون عبارة عن سباق قاتل ضد الزمن، وفي أول أيام الصراع، قد تضطر القوات الأميركية والتايوانية لإغراق مئات السفن الصينية لمنع جيش التحرير الشعبي من نقل أعداد كبيرة من الجنود. كذلك، يجب أن تتمتع تايوان بقدرة كافية على الصمود لتحمّل أعمال التخريب والقصف والهجوم الجوي والبحري، وقد تضطر الولايات المتحدة لتكبّد خسائر ثقيلة فيما تحاول قواتها العسكرية شق طريقها نحو ساحة المعركة، وقد تكون هذه المهمة شاقة لدرجة أن يرفض أي رئيس مستقبلي القتال بكل بساطة.

ثمة خيار بديل لكنه ليس جاذباً جداً، ستحتاج تايوان إلى زيادة الاستثمار في دفاعاتها الخاصة بطريقة جذرية (ما يساوي على الأرجح ضعف ناتجها المحلي الإجمالي الذي تصرفه راهناً وتصل نسبته إلى 2.3%)، ويجب أن تُسلّح نفسها بالألغام والصواريخ المضادة للسفن والدفاعات الجوية المتنقلة وإمكانات أخرى قليلة الكلفة لكن قاتلة. قد يضطر البنتاغون من جهته لاقتناء المزيد من الإمكانات الهجومية طويلة المدى، فضلاً عن الغواصات والطائرات بلا طيار ومركبات آلية تحت الماء وموارد أخرى يمكن استخدامها لإضعاف قوات الغزو منذ البداية. لكن لن تكون نهاية هذا الصراع وشيكة، بل يجب أن تتقبل واشنطن وتايبيه نشوء منافسة طويلة ومتقلبة مع بكين لفرض التفوق العسكري، واحتدام التوتر بين الأطراف المعنية، واندلاع أزمات متكررة خلال السنوات المقبلة. يجب ألا ينسى أحد أن برلين واجهت أزمات متعددة في أول 15 سنة من الحرب الباردة وقد يصبح مضيق تايوان مضطرباً بالقدر نفسه.

قد نعتبر المنافسة الأميركية الصينية أحياناً نوعاً مختلفاً بالكامل من الصراع على النفوذ بين القوى العظمى ونفترض أن نتيجتها ستتحدد بحسب الجهة التي تسيطر على البيانات، لا المناطق الاستراتيجية، لكنّ هذا الصراع هو عبارة عن تنافس عسكري تقليدي يترافق مع جميع أنواع المخاطر المحتملة، وستكون خسارة تايوان كارثية على العالم الحر، لكنّ الحفاظ عليها مسار شاق ومكلف وخطير.

● هال براندز