بينما تتراجع العلاقات الأميركية- الصينية بدرجة غير مسبوقة مع مرور كل يوم جديد وتتبادل واشنطن وبكين خطوات تصعيدية متزايدة مثل إغلاق القنصليات ويشنّ الرئيس دونالد ترامب هجوماً قوياً على التكنولوجيا الصينية، بدأت الساحة الأوروبية تبلغ مرحلة تصعيدية مفصلية بدورها مع أنها تبقى أكثر هدوءاً.

في الأسابيع الأخيرة، اتخذت المملكة المتحدة خطوات محورية لتغيير سياستها تجاه الصين، فدعت في البداية حاملي جوازات السفر البريطانية في هونغ كونغ إلى تقديم طلب للحصول على إقامة دائمة، ثم استبعدت شركة "هواوي" من شبكات الجيل الخامس في بريطانيا اعتباراً من عام 2027، وحذت فرنسا حذوها في هاتين الخطوتين، فرفضت المصادقة على معاهدة تسليم المطلوبين مع هونغ كونغ وطلبت من شركات التشغيل المحلية أن توقف تعاملها مع "هواوي" بحلول عام 2028، أما ألمانيا فهي آخر قطب من الترويكا الأوروبية وصاحبة القرار الأخير حول توجّه أوروبا.

Ad

كانت الظروف مؤاتية كي تكسب الزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل الكثير من النفوذ وأوراق الضغط، حيث تسلمت ألمانيا في يوليو الماضي رئاسة الاتحاد الأوروبي الدورية طوال ستة أشهر، لكن أصبح إرث ميركل السياسي على المحك لأن عهدها القائم منذ 15 سنة كمستشارة ألمانيا سينتهي بعد سنة. حرصت ميركل خلال عهدها الطويل على جعل الصين جزءاً أساسياً من سياستها الخارجية أو جانباً حاسماً منها.

منذ ثلاثة أشهر فقط، كان المشهد الجيوستراتيجي في أوروبا مختلفاً تجاه الصين، إذ احتدمت النقاشات حول "دبلوماسية الكمامات" الصينية وقدرتها على كسب الأصدقاء في كل مكان، وانتشرت مشاهد التلويح بالأعلام الصينية ووصول مئات طائرات الشحن الصينية التي تنقل الفِرَق والمعدات الطبية في مختلف وسائل الإعلام الأوروبية. لكن في 14 يوليو، وفي أول خطوة ضمن سلسلة من التحركات المتلاحقة والحاسمة، صُدِم العالم بالتحول البريطاني الجذري وقرار حظر "هواوي"، فطوال أشهر اختبأت دول الاتحاد الأوروبي وراء موقف بريطانيا القوي حول قدرتها على التحكم بالمخاطر التي تطرحها "هواوي"، لكن بعد إعلانها المفاجئ، حُرِمت البلدان الأوروبية من ذلك الغطاء بلا سابق إنذار.

كان هذا الموقف متناقضاً مع التوجه البريطاني العام: غداة إقرار خطة "بريكست"، بدأت لندن تؤدي دوراً قيادياً مضاعفاً مع أنها حاولت التخلي عن هذا الدور حين كانت لا تزال ملتزمة بعضويتها في الاتحاد الأوروبي، وقوبلت دعوة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بإعادة بريطانيا إلى "دورها العالمي" بردود أفعال عدائية، فبدا وكأن لندن بدأت تسترجع توجّهها الإمبريالي السابق، وفي غضون ذلك، وجدت ألمانيا وفرنسا صعوبة في توحيد طريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع الصين في بروكسل. لا تواجه ميركل وحدها قرارات صعبة اليوم، بل تشعر بكين أيضاً أن احتمال التوصل إلى اتفاق استثماري مع الاتحاد الأوروبي بدأ يتلاشى بسرعة، ومن المتوقع أن تنهار فرص النجاح بعد رحيل ميركل، وإذا كانت الصين تعجز عن عقد صفقة مماثلة مع أنها تُحدد وجهة أجندتها بنفسها، سيصعب عليها إيجاد شريك قوي يتمتع بنفوذ يضاهيها. كذلك، قد تحمل الصين نوايا مختلفة بالكامل، فتفضّل تأخير الصفقة لمدة إضافية وانتظار انقضاء ما تبقى من عهد ميركل بكل بساطة.

في النهاية، استمرت المحادثات لسنوات ولا ضير من انتظار ستة أشهر إضافية، وفي مطلق الأحوال تعطي بكين حتماً أهمية كبرى للترويكا الأوروبية قبل أن تتخذ قراراتها، وقد لا تكون مقاربة لندن وباريس وبرلين موحّدة ومنسّقة، لكنّ الإجماع النادر على سياسة خارجية عدائية يشكّل مصدر قلق للحزب الشيوعي الصيني ولا مفر من أن يؤثر في حساباته الاستراتيجية.

تأمل ألمانيا حتى الآن استضافة قمة تجمع بين قادة الصين والاتحاد الأوروبي هذه السنة، لكن لا بد من مراقبة مواقف ميركل تحديداً، فهي تتعرض لضغوط غير مسبوقة كي تتجاوز هذه الخطابات الصدامية، وتعقد الاتفاق الاستثماري المنتظر بين الاتحاد الأوروبي والصين، وتتوصل إلى قرار أوروبي نهائي وحاسم حول "هواوي"، وتترك إرثاً سياسياً قيّماً وراءها تزامناً مع ضمان مستقبل بلدها في زمنٍ تحتدم فيه الاضطرابات الجيوسياسية الخطيرة.

* «فيليب لوكور وجون فيرغيسون»