يتحدث مراقبو العلاقات الأميركية الصينية بصورة متزايدة عن حرب باردة جديدة، فإلى جانب خوض البلدين حربا تجارية طويلة الأمد، دخلا الآن في دائرة مدمِّرة من العقوبات المتبادلة، وإجراءات إغلاق القنصليات، والخطابات الرسمية التي تتزايد عِدائية، وهناك جهود تُبذل لفصل الاقتصاد الأميركي عن الاقتصاد الصيني، في وقت تتصاعد فيه التوترات في كل من بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.

إن اندلاع حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين من شأنها أن تجعل كلا البلدين والعالم أسوأ حالا، وستكون خطيرة ومكلفة، لأسباب ليس أقلها أنها ستحول دون التعاون المطلوب فيما يتعلق بمجموعة من القضايا الإقليمية والعالمية.

Ad

إن الخبر السار هو أن هذه النتيجة ليست حتمية؛ أما النبأ السيئ فهو أن احتمال نشوب حرب باردة ثانية في الوقت الحاضر، أكبر بكثير مما كان عليه قبل شهور فقط، والأسوأ من ذلك هو أن احتمال نشوب حرب فعلية نتيجة حادثة تورطت فيها جيوش الدول هو أكبر أيضا.

لماذا يحدث هذا؟ يقول البعض إن المواجهة بين الصين وأميركا لا مفر منها، وهذا ناتج عن الاحتكاك بين القوى الراسخة والقوى الصاعدة في يومنا هذا، ولكن وجهة النظر هذه تغفل عن مراحل عدة من التاريخ لم تؤد فيها هذه التحولات في السلطة إلى نشوب حرب؛ بل تقلل أيضا من أهمية القرارات التي اتُخذت بالفعل، والتي لم تُتخذ بعد، ومهما كانت الظروف، بالكاد هناك ما لا مفر منه في التاريخ.

ويبدأ التقييم الأكثر جدية بشأن الظروف التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من الصين، إذ اعتمدت الحكومة الصينية في السنوات الأخيرة، وبصورة متزايدة في الأشهر الأخيرة، مسارا أكثر صرامة في الداخل وفي الخارج، وينعكس هذا في الحملة التي شنتها الصين في هونغ كونغ في أعقاب سنها قانونا جديدا صارما للأمن القومي؛ والمعاملة اللا إنسانية للأقليات المسلمة من الإيغور؛ والاشتباكات على طول حدودها غير المستقرة مع الهند، وغرق سفينة فيتنامية في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه؛ واستعراضها بصفة منتظمة قواتها العسكرية بالقرب من تايوان وجزر سينكاكو، التي تزعم كل من الصين واليابان أنها ملكهما.

وقد أدى ذلك إلى خيبة أمل كبيرة تجاه الصين في الولايات المتحدة، مما زاد من التوترات الأساسية الناجمة عن سرقة الصين المستمرة للملكية الفكرية الأميركية، وممارساتها التجارية التي يلقي الكثيرون باللوم عليها في اختفاء وظائف التصنيع الأميركية، وحشدها العسكري المنسق، والقمع الذي تمارسه بصورة متزايدة في الداخل. ولم تتحقق الآمال في أن يؤدي الاندماج في الاقتصاد العالمي إلى جعل الصين أكثر انفتاحا والتزاما بالقواعد.

لماذا تزداد سياسات الصين حزما الآن؟ ربما لأن الرئيس شي جين بينغ يرى في ذلك فرصة لتعزيز المصالح الصينية في حين تنشغل الولايات المتحدة بتداعيات "كوفيد-19"، أو يمكن أن يكون ذلك نتيجة لرغبة الصين في صرف الانتباه المحلي عن سوء تعاملها مع الفيروس في المراحل الأولى من ظهوره، والتباطؤ الاقتصادي الذي تفاقم بسبب الوباء، وليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها حكومة ما إلى القومية لتغيير الحوار السياسي.

والتفسير الثالث هو أكثر إثارة للقلق، والذي يؤكد أن سلوك الصين الأخير ليس انتفاعيا أو انتهازيا بقدر كونه يمثل حقبة جديدة من السياسة الخارجية الصينية، حقبة تعكس قوة وطموحات البلاد المتزايدة، وإذا كانت هذه هي الحال، فإنها تعزز الرأي القائل إن الحرب الباردة أو أسوأ من ذلك يمكن أن تتحقق.

وبالطبع، يتزامن كل هذا مع حملة انتخابية أميركية، وتسعى إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى إلقاء اللوم على الآخرين في تعاملها غير الكفء مع الوباء، ومن المؤكد أن مسؤولية الصين عما يحدث ليست بالقليلة، حيث إنها قامت في البداية بقمع المعلومات حول تفشي المرض، وكانت بطيئة في الاستجابة له، وأخفقت في التعاون بالقدر المطلوب مع منظمة الصحة العالمية وغيرها، ولكن لا يمكن إلقاء اللوم على الصين لتبرير افتقار الولايات المتحدة إلى معدات الاختبار اللازمة، وعدم اقتفائها أثر المرضى المخالطين بما يكفي، ناهيك عن فشل ترامب في قبول العلم، ودعم الأوامر الرسمية باتخاذ اجراءات التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات.

ولكن سيكون من الخطأ عَزْو وجهات النظر الأميركية المتغيرة بشأن الصين إلى السياسة الداخلية الأميركية في المقام الأول، فأكثر سياسات الصين صرامة ستستمر بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفي الواقع يمكن أن تصبح سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين أكثر أهمية بقيادة رئيس مثل جو بايدن، الذي ستكون إدارته أقل انشغالا بالتفاوض بشأن اتفاقيات التجارة الضيقة، وأكثر تركيزا على معالجة الجوانب الأخرى المزعجة للسلوك الصيني.

وعلى المدى القصير، يجب على كلا الجانبين أن يكفلا أن الاتصالات في حالة الأزمات جيدة، حتى يتمكنا من الرد بسرعة على حادثة عسكرية وإبقائها محدودة. وبإيجابية أكثر، يمكن للحكومتين إيجاد أرضية مشتركة من خلال إتاحة لقاح لفيروس "كوفيد-19" للآخرين، أو مساعدة البلدان الفقيرة على إدارة التداعيات الاقتصادية للوباء، أو كلا الأمرين.

وبعد الانتخابات الأميركية، يتعين على الحكومتين بدء حوار استراتيجي هادئ لتطوير قواعد تُفضي بهما نحو العلاقات الثنائية، وستحتاج الولايات المتحدة إلى التخلي عن الآمال غير الواقعية في أن تتمكن من تعزيز تغيير النظام في الصين، والتركيز بدلا من ذلك على تشكيل سلوك الصين الخارجي. وسيتعين على الصين أن تقبل أن هناك حدودا لما ستتحمله الولايات المتحدة وحلفاؤها، عندما يتعلق الأمر بالسلوكيات الأحادية التي تسعى إلى تغيير الوضع الراهن في بحر الصين الجنوبي، أو تايوان، أو مع جزر سينكاكو.

وعلى المدى الطويل، فإن أفضل أمل هو إنشاء علاقة مُدارة تنبني على المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، تلك التي من شأنها تجنب الصراع، والسماح بتعاون محدود عندما يكون ذلك في مصلحة كلا البلدين، وقد لا يبدو هذا بالشيء الكثير، لكنه طموح جدا بالنظر إلى الوضع الراهن وإلى ما سيؤول إليه.

* رئيس مجلس العلاقات الخارجية، وقد صدر له مؤخرا كتاب بعنوان "العالم: مقدمة موجزة"

«ريتشارد هاس»