منهج الإسلام في التشريع

يغيب عن معظم المنادين بالحاكمية الإلهية للتشريع، القائلين إن البشر لا يشرعون، أن الإسلام عندما نزل على مجتمعات الجزيرة العربية، لم ينزل في فراغ، إنما نزل في بيئات اجتماعية تسودها عادات وتقاليد وأعراف وقيم ونظم سياسية وتشريعية وإرث ثقافي شفاهي ضخم: سواء فيما يتعلق بالمعتقدات أو العبادات أو المعاملات أو الزواج والطلاق أو المواريث أو العقوبات أو العلاقات بالمجتمعات الأخرى. من المهم إدراك هذه الحقيقة، وهي أن القرآن نزل في بيئة اجتماعية زاخرة بتشريعات غير مكتوبة لكنها تشكل نظاماً قانونياً ملزماً، واستحضار هذه "الخلفية التاريخية" ضروري لكل المشتغلين بدراسة النصوص الدينية واستنتاج الأحكام الشرعية منها، لأن إغفالها أشبه بعزل النصوص عن سياقها الاجتماعي المؤدي إلى سوء الفهم. وقد أدرك الإمام الشافعي هذه الحقيقة فقال: "ينبغي لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنّة، معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري عاداتها، لأن الجهل بها يوقع في الإشكال الذي يتعذر الخروج منه إلا بهذه المعرفة".

Ad

إذاً: القرآن نزل في بيئة تحكمها عادات وأعراف ونظم ومعتقدات، أي تشريعات من وضع البشر، فماذا كان موقفه منها؟ هل ألغاها؟ هل أقرها؟ هل عدلها؟ هل أضاف جديداً؟

ما المنهج التشريعي للقرآن الكريم مع التشريعات البشرية في زمنه؟

أولا: في ميدان العقائد:

كان الإسلام قاطعاً في مكافحة الوثنية والشرك وإلغاء كل مظاهرها وأشكالها ومحو كل آثارها، وترسيخ الإيمان بالإله الواحد، في النفوس، وهذه هي المعركة الأساسية للقرآن مع مشركي العرب، فلم يقبل القرآن أي مساومة في عقيدة التوحيد.

ثانياً: في ميدان العبادات والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والأسرية:

1- ميدان العبادات: عرف المجتمع العربي قبل الإسلام بعض الشعائر الدينية الموروثة من ملة إبراهيم (الحنيفية) والديانات السابقة، كالصلاة والصيام ومناسك الحج والعمرة، وتقديم القرابين والنذور، التي تؤدى كطقوس للمعبودات من الأوثان تقرباً للإله بحسب زعمهم! لكن الإسلام في هذا الميدان كان حاسماً، فعمل أولاً على أن تكون العبادات خالصة لله تعالى، وتصبح باطلة إذا شابها أي مسحة شرك، وعمل ثانياً على تنقية هذه الشعائر وتطهيرها من مظاهر الفساد والانحراف والبدع والملوثات التي تراكمت عليها عبر الأزمان، وعمل ثالثاً على إعادة صياغة هذه الشعائر في هيئات تناسب الدين الجديد، مختلفة شكلاً ومضموناً عن هيئاتها السابقة. طبيعة هذه الشعائر أنها ثابتة لا تقبل التغيير أو التبديل أو الإضافة مهما تغيرت السياقات الاجتماعية والزمانية، ولهذا أجمع الفقهاء على قاعدة "لا يعبد الله إلا بما شرع".

2- ميدان المعاملات والعلاقات الاجتماعية والأسرية: يختلف موقف المشرع هنا اختلافاً جوهرياً عن موقفه في الميدانين السابقين، ويتضح هذا الموقف إذا عرفنا أن الشريعة ليست هي التي أنشأت للناس صور التبادل والتعاون والتعامل، ولكنها جاءت فوجدت صوراً يتعامل الناس بها فكان لها موقف "الناقد المهذب" طبقاً للعالم الإصلاحي الكبير محمد محمد المدني.

يتأكد هذا الموقف، إذا أدركنا أن التشريعات المتعلقة بهذا الميدان، تخضع لقانون التغير والتطور طبقاً لتغير المجتمعات وتجدد احتياجاتها، ومن هنا نفهم حكمة الإسلام في مراعاة قانون التغير، عندما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لصحابته: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

منهج الإسلام في المتغيرات الاجتماعية:

يتلخص منهج الإسلام في هذا الميدان في (3) أساليب هي: الإلغاء، التعديل، الإقرار، حيث ألغى الإسلام من هذه التعاملات ما يشوبها الربا والغش والاحتكار والغرر، وعدل ما يسبب النزاعات والتشاحن والبغضاء، وأقر كل التعاملات التي تحقق العدل والتيسير وتعزز ترابط المجتمع، وهذا باب واسع ينتظم كل صور التعاملات والعلاقات التي تنظمها التشريعات المعاصرة؛ لهذا أجمع الفقهاء على قاعدة "المعاملات طلق حتى يرد منع".

أخيراً:

الخلاصة النهائية التي أريد توصيلها للقارئ من هذه السلسلة أن التشريعات الوضعية المعاصرة، هي من شرع الله، مادامت في إطار ثوابته القاطعة، وأن الشريعة الإسلامية لم تغب يوماً عن دنيا المسلمين.

* كاتب قطري