أصبحت حياتنا رقمية بالكامل تحت ظل أزمة «كورونا» وباتت تحركاتنا محدودة بسبب الحظر، فأصبح تواصلنا إلكترونياً وقمنا نطلب احتياجاتنا عبر الأثير لتصلنا إلى عتبة باب منزلنا، وبعد قضاء كل هذه المدة خلف الشاشات أصبح كل شيء لا طعم له بعد الآن، فحواراتنا الإلكترونية تحولت من متعة رقمية إلى مجرد كلمات لا ندري إن كانت أصداؤها تصل القلوب خلف هذا الجدار الزجاجي الهائل الذي بات يغلف حياتنا بأكملها.

نهرب من ذواتنا ونختبئ خلف تلك الشاشات المقيتة التي قتلت كل مساحة للتأمل، تلك المساحة الروحية التي يبدو أننا احتجنا إلى وباء بهذا الحجم كي نلتفت إليها وما زلنا هاربين! اترك الهاتف قليلاً فقد تكون متعة الاختلاء بذاتك أعظم من ذلك اللهاث الإلكتروني والتواصل الكاذب، وقد تجد ضالتك في لحظات السكون.

Ad

نعود تدريجياً إلى الحياة «الطبيعية» فنتساءل عن مدى طبيعتها فعلياً، ندرك أنه لا عودة وما يحدث الآن ليس سوى تكوين لحياة جديدة ما زالت في مرحلتها الجنينية.

غيرت الجائحة كل شيء وكشفت عن بواطن الفساد في أعمق جحوره، فأدركنا أنه لا مفر ولابد من المواجهة والتصحيح، وأهم مواجهة هي تلك التي نواجه بها ذواتنا، وبعد رفع الحظر تماماً عن الدول الشقيقة وعودة الحياة الروتينية الطبيعية في أغلب دول العالم بات السؤال مُلِحاً: ما سبب تأخرنا وتسجيلنا أعلى معدل إصابات في العالم؟ وما سبب انتشار الفساد وغسل الأموال على الملأ في وضح النهار؟ قد سئم الجميع من كل هذا الفساد وأصبحنا نتكلم بكل شفافية، وقد يكون ذلك من محاسن الجائحة.

كان– ومازال- الفيروس بمثابة الأشعة السينية التي أرتنا صورة حقيقية حتى النخاع عن حياتنا، فقمنا نلحظ كل تلك التصدعات والكسور التي لربما التأمت بطريقة غير صحيحة اسمها «التعايش» وابتلاع المر، لذا فهي مازالت تؤلمنا.

أصبحنا نعيش الوحدة في كوكب الـ7 مليارات، ولربما سيجعلنا ذلك أكثر استعداداً لتقبل الآخرين والتلذذ بكل لحظة تحاور ووصال، فكان الشعور بالوحدة اختباراً حقيقياً، فهل نقدر أن نشعر بآدميتنا دون أن نرى انعكاسها في أعين الآخرين المحجوبين عنا؟ وفي خضم عزلتنا المكانية وغوصنا في أسبار الذات هل يتبلد شعورنا بهموم الآخرين ومشاكلهم التي قد تفوق همومنا صعوبةً وتعقيداً؟ كل هذه التأملات والوقفات تجعلنا نحلم بعالم جديد تسود فيه العدالة والحرية وبناء حياة تشبهنا بعيدة عن أثقال التوقعات والأعباء الاجتماعية.

«كورونا» اختبار للصبر والمرونة، فسترجع الحياة الطبيعية يوماً ما لا محالة، وإن كان ذلك بعد مرور سنة أو سنتين من الزمن، وسنستعيد قدرتنا على الحركة في هذا العالم الشاسع تدريجياً، لكن السؤال هو: ماذا نفعل في هذه الأيام من استجماع للطاقة والجهود كي نبني عالمنا ما بعد «كورونا؟ وكيف نوجد حب الحياة فينا والقدرة على الاستمرار تحت ظل هذه الظروف؟ نحن بشر ولسنا آلات، لذا فمن الطبيعي ألا نكون منجزين على الدوام وأن نمر ببعض الأيام الصعبة، لكن ما يجب أن نطمح إليه هو الحفاظ على رباطة جأشنا واستقرارنا النفسي قدر الإمكان، وهو ليس بالأمر السهل تحت وطأة الجائحة، لكننا سنحاول قدر الإمكان في هذه الفترة الانتقالية العظمى كي نظهر بعدها بحلة جديدة وعالم جديد أجمل بإذن الله.