ساد أجواء النقاشات السياسية والاقتصادية، في الكويت الفترة الماضية، مصطلح "عدم مس جيب المواطن"، حتى بات مدخلاً لنزاعات وخصومات في أوساط

متعددة، يرتكز معظمها على رفض ما يعرف بـ"الوثيقة الاقتصادية"، التي تدرسها الحكومة؛ بما فيها من اجراءات قد تقلل من مزايا موظفي الدولة أو المواطنين.

Ad

ومثله مثل أي مصطلح شعبوي أو معالجة منحرفة عن واقع الحال؛ كمقترح إسقاط القروض الذي يطرحه مؤيدوه دون معالجة لأسباب الاقتراض من احتياجات معيشية او بسبب سياسات تضخمية وضياع نحو 14 عاما من المطالبات في محاكمة النتيجة لا السبب، أو تعديل قوانين التقاعد المبكر بطريقة ظاهرها المنفعة وباطنها أقرب الى الفخ بما ينفع المواطنين الميسورين أصحاب الدخول المتنوعة أكثر من محدودي الدخل، أو تبني مشاريع من شأنها التضييق على حياة الوافدين، دون معالجة جذرية لاختلالات التركيبة السكانية، وتحديدا ما يرتبط بها من تجارة للإقامات والبشر- فإن مصطلح "عدم مس جيب المواطن" لا يعدو عن كونه انحرافا متوقعا لحال المطالبات الشعبوية، التي تركز هذه المرة على "جيب المواطن"، وتهمل في المقابل الأهم المرتبط بـ"حماية وتعزيز شبكة الامان الاجتماعي للطبقة المتوسطة".

مصطلحان

وشتان ما بين مصطلحي "عدم مس جيب المواطن" و"حماية وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي للطبقة المتوسطة"، فالأول معني بالمنافع المالية المباشرة، بكل ما فيه من ثقافة ريعية، أما الثاني فيركز على زوايا غير مالية، ومعني أكثر بدور الدولة في تحقيق الرفاهية بالمجتمع، بل إنه مدخل لحلول تمس قضايا اقتصادية واجتماعية وخدمية تعانيها الدولة والمواطنون على السواء، فشبكة الأمان الاجتماعي معنية بمصير أكثر من 150 ألف أسرة كويتية تنتظر توفر السكن المستقل الملائم لما يصل الى 15 عاما، وعشرات الآلاف من الأسر التي تدفع ثمن سوء مستوى التعليم والصحة ماليا، عبر اللجوء للكيانات البديلة في القطاع الخاص، فضلاً عن الآثار التضخمية لسياسات الاحتكار في السوق، الى جانب محدودية فرص الاستثمار كالاكتتابات العامة وغياب سياسات الادخار وغيرها، التي تعزز من رفاهية المواطن والأسرة الكويتية بما هو أبعد من مجرد توفير الأموال. وبالتالي فإن العمل على معالجتها يعزز أحوال الطبقة المتوسطة في المجتمع، بالتوازي مع وضع حلول لمشاكل خدمية لطالما تعثرت الدولة في تحقيقها.

منافع الدولة

بل إن منافع الدولة من "تعزيز الطبقة المتوسطة" يمتد إلى ماليتها العامة من زاوية إعادة هيكلة الدعوم، بما يمكن ان يعيد توزيع الدعم على مستحقيه، بدلا من الوضع الحالي الذي لا يراعي بدرجة ما اختلاف مستويات الدخل بين المواطنين من جهة، ويخلط بدرجة أكبر بين الدعومات الموجهة للشركات والأعمال مع الدعومات الموجهة للمواطنين، وهو امر يستحق مزيدا من التفصيل عند اعداد الميزانية العامة للدولة، كي تكون اي اجراءات احترازية او تقشفية واضحة الاتجاه، بما لا يجعل الطبقة المتوسطة ومن هم دونها بالطبع يدفعون ثمن أي قرارات لا تبدأ بالأكثر ثروة في المجتمع.

سوء متبادل

والمقترحات الشعبوية بأوهامها تُماثِل في سوئها السياسات الحكومية المتشددة تجاه المواطنين، فرغم ان طريق كل منهما مناقض للأخر، فإن أثر كل منهما ينافس الاخر في السوء أو الاثر السلبي على مناحي الحياة، فالآثار المترتبة على خطط وخيارات حكومية سابقة او حالية بشأن خفض دعم المواد التموينية او إلغاء مجانية التعليم الجامعي أو خفض القرض الإسكاني وبدل الإيجار او تقنين فاتورة الرعاية الاجتماعية، لا تقل أثرا عن مقترحات شعبوية أخرى؛ كإسقاط القروض او التضييق على الوافدين... فكلها حلول منحرفة عن أصل المشكلة ويترتب عليها تحميل المجتمع لكلفة سوء الإدارة، فضلا عن آثار التضخم وانفلات الاسعار وغيرها.

الأولوية اليوم، مع التأكيد على ضرورة تبني سياسات اصلاح اقتصادي، تتعلق بمصروفات الميزانية وآليات تمويلها وإعادة توجيهها نحو أهداف اقتصادية بعيدة المدى، فإن العمل على حماية وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي للطبقة المتوسطة هو الأولوية لخفض أثر أي سياسات تقشفية في المجتمع، وهذا بالطبع لا يتطلب ضخ أموال مباشرة، بل حلولا وبرامج بعضها خدمية كحل مشكلات الإسكان والتعليم والصحة، وأخرى اقتصادية كمكافحة الاحتكار وتعزيز المنافسة والسيطرة على التضخم، وأخرى استثمارية بتوسيع دور الشباب في الاعمال والاقتصاد وطرح المشاريع للاكتتاب لصالح المواطنين، بل حتى معالجة قضايا محدودة الحجم كأثر فاتورة الترفيه على الأسر بسبب قلة واحتكار البدائل المحلية، وعليه فإن العمل في هذا الاتجاه هو النافع أكثر للاقتصاد والمواطن معا، أكثر من أوهام المصطلحات والمقترحات الشعبوية ذات المعالجات السطحية او غير الواقعية.