اعتماد الميزانية ليس أجلاً لدور الانعقاد:

Ad

تناولت في مقال أمس نصوص البناء التنظيمي الدستوري واللائحي لفحص وإقرار الميزانية، وتفسير المحكمة الدستورية لهذه النصوص، القاطعي الدلالة، في وجوب فحص وإقرار الميزانية في المجلس ولجانه باستعجال فور تقديم الحكومة لمشروعها قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل إعمالاً للمادة (140) من الدستور، ليتاح للمجلس طبقا لأحكام هذه المادة أيضاً فحصها وإقرارها خلال هذه الفترة، للعمل بها من اليوم الأول للسنة المالية، وأن التراخي في إقرارها إلى نهاية السنة المالية قد رتب عليه الدستور جزاء هو تطبيق الميزانية القديمة حتى صدور قانون الميزانية الجديدة، كما رتبت عليه المحكمة الدستورية– بحق– العمل بالقانون من تاريخ صدوره دون أثر رجعي، وهو ما اعتبرناه حقا، وجزاء تبعياً، للجزاء الأصلي الذي رتبه الدستور.

وحيث تنص المادة (85) من الدستور على أن "لمجلس الأمة دور انعقاد سنوي لا يقل عن ثمانية أشهر، ولا يجوز فض هذا الدور قبل اعتماد الميزانية"، فقد شاع– بسبب هذا النص وما ورد فيه من حظر فض دور الانعقاد قبل اعتماد الميزانية- الاعتقاد بأن هذا النص يضع أجلين لفض دور الانعقاد: أحدهما، ألا تقل مدة دور الانعقاد السنوي عن ثمانية أشهر، وثانيهما، اعتماد الميزانية.

إلا أن هذا الاعتقاد قد أخطأ مرمى النص وضل عن أهدافه، حين طبق هذا النص بمعزل عن النصوص الدستورية الأخرى، دون أن يسبر هذا التطبيق غور هذا النص ومقاصده والغاية التي استهدفت من تقريره والغرض المقصود منه.

فالتوفيق بين هذا النص والنصوص الدستورية في البناء التنظيمي الدستوري واللائحي للميزانية، بالتقريب بينهما، وترجيح الفهم الذي لا يقوم به التعارض بين المادة (85) وبين النصوص سالفة الذكر، والتي تناولناها في مقال أمس، ووفقاً للمنهج الأصيل لتفسير النصوص الدستورية الذي وضعته لنا المحكمة الدستورية، ودون تأويل هذا النص بما لا يحتمله ويتعارض مع هذا البناء، يكشف عن المعنى الحقيقي الذي جاء هذا النص معبرا عنه ومحمولا عليه، هو تفعيل الرقابة البرلمانية على الميزانية، فهذه الرقابة هي أهم وأخطر أدوات الرقابة البرلمانية، بل أقدمها، فقد كانت سبب نشأة البرلمانات، فهي تتناول كل أعمال السلطة التنفيذية بلا استثناء، لما تتضمنه ميزانية الدولة من بيان بالإيرادات التي تتوقع الدولة تحصيلها في السنة المالية المقبلة وأوجه الصرف التي تزمع أن توجه إليها تلك الإيرادات، خلال سنة مالية مقبلة، وحيث يبسط مجلس الأمة رقابته بعد ذلك على الحساب الختامي الذي تلتزم الحكومة بتقديمه إلى مجلس الأمة خلال الأشهر الأربعة التالية لانتهاء السنة المالية.

وترجع أهمية هذه الرقابة كذلك، إلى أنها فرض عين– كما يقول علماء أصول الفقه– على كل عضو في مجلس الأمة، أما باقي أدوات الرقابة البرلمانية، فهي فرص كفاية، يحركها عضو واحد كالسؤال البرلماني، أو عدد محدود من الأعضاء، كالاستجواب أو الاقتراح برغبة وطلب المناقشة العامة أو طلب التحقيق البرلماني، وإن شارك باقي الأعضاء فيما يتخذ من قرارات في هذه الأدوات، وفقاً للنصوص المنظمة لهذه الأدوات.

لذلك حرص الدستور على توفير ضمانة أساسية لهذه الرقابة هي عدم جواز فض دور الانعقاد السنوي قبل اعتماد الميزانية، للحيلولة دون إفلات الميزانية من الرقابة البرلمانية، إذا لم توفق الحكومة في إقناع المجلس بمشروع الميزانية الذي قدمته، الأمر الذي تستطيع معه الحكومة، في غياب هذا الشرط، أن تستصدر مرسوما بفض دور الانعقاد، وأن تستصدر بعد فض الدور مرسوما آخر بقانون، باعتماد الميزانية، إعمالا للمادة (71) من الدستور، معتمدة في ذلك على الأغلبية الخاصة التي تطلبتها المحكمة الدستورية لرفض المرسوم بقانون، في تفسيرها للمادة (97) من الدستور، وهي وجوب موافقة أغلبية أعضاء المجلس على رفض المرسوم بقانون.

وجدير بالذكر أن رئيس الدولة استخدم سلطته الاستثنائية المنصوص عليها في المادة (71) من الدستور بأن أصدر المرسوم بقانون رقم 63 لسنة 1999 باعتماد ميزانية السنة المالية 1999-2000، بعد حل مجلس الأمة في الفصل التشريعي الثامن.

كما يعتبر هذا الحكم الوارد في المادة (85)، فيما يتعلق بالميزانية من أهم أدوات التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في مجال أعمال الرقابة البرلمانية التي يمارسها المجلس على أعمال السلطة التنفيذية فيما يتعلق بالميزانية باعتبارها أرقى وأهم وأقدم أدوات الرقابة البرلمانية.