منذ أن بدأت إثيوبيا عملية بناء سدالنهضة عام 2011، أدى إلى توتر العلاقات في حوض نهر النيل. إذ تعتبر مصر هذا المشروع تهديداً وجودياً عليها: يتكل البلد على النيل للحصول على جميع كميات المياه العذبة تقريباً، وهو يفرض هيمنته على حوض النيل منذ أكثر من 60 سنة. وتقدم معاهدة عام 1959 مع السودان حصة ضخمة من مياه النهر إلى مصر. لم تكن إثيوبيا جزءاً من ذلك الاتفاق، لكن عارضت مصر بناء أي سدود في المنبع قد تُضعِف إمداداتها المائية، حتى أنها فكرت باستعمال القوة العسكرية لمنع بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير في عام 2013.

عادت القاهرة وتبنّت موقفاً أكثر تساهلاً في السنوات الأخيرة وسعت إلى التفاوض على تسوية مع إثيوبيا، لكنها تعتبر السد حتى الآن تهديداً على مصالحها الوطنية. أصبحت السودان عالقة وسط هذا الصراع حرفياً ومجازياً: يقع هذا البلد بين قوتَين إقليميتَين مؤثرتَين على نهر النيل ويسمح له موقعه بالاستفادة من سد النهضة لكنه يريد تخفيف الآثار الاجتماعية والبيئية السلبية للمشروع.

Ad

أحرزت المفاوضات بين البلدان الثلاثة بعض التقدم، لكنها فشلت في معالجة مسائل محورية مثل وضع الآلية المناسبة لحل النزاع أو تحديد القواعد اللازمة لتشغيل سد النهضة في فترات الجفاف المطوّل. طالبت مصر والسودان بأن تتوصل الأطراف المعنية إلى اتفاق قبل أن تبدأ إثيوبيا بملء الخزان، لكن أكملت أديس أبابا خططها في مطلق الأحوال واستعملت قوتها في مجال الهندسة والبناء لكبح ما اعتبرته توزيعاً غير عادل للموارد الطبيعية. من المتوقع أن تستمر المفاوضات بشأن سد النهضة الإثيوبي الكبير ومسائل أوسع ترتبط بتقاسم المياه في أنحاء الحوض، لكن سيستمر التوتر أيضاً بين القاهرة وأديس أبابا فيما يتصارع البلدان على كسب النفوذ في المنطقة المجاورة لهما وما وراءها.

لكن قد لا تنشأ أكبر الاضطرابات الناجمة عن النزاع على المياه بين البلدان الواقعة في حوض نهر النيل بل في داخلها. أدت السياسات السامة في نهر النيل إلى تعقيد العملية الانتقالية الديمقراطية الهشة في إثيوبيا نتيجة توسّع الهوة السياسية بين الحكومة ومعارضيها. حتى أنها رسّخت الأنماط المصرية التي تُستعمل للتواصل مع السودان وتعطي الأولوية للجيش وقوات الأمن السودانية على حساب القادة المدنيين للبلاد. بعبارة أخرى، أدت النزعة القومية السائدة على نهر النيل إلى إضعاف اثنتين من أبرز العمليات الانتقالية الديمقراطية الواعدة في القرن الإفريقي.

نحو إعادة التوازن إلى المنطقة

كانت مصر تقليدياً لاعبة مهمة في منطقة القرن الإفريقي، لكن تلاشى نفوذها منذ أحداث الربيع العربي مقابل توسّع قوة إثيوبيا. فشلت القاهرة في منع بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير، لذا تريد أن تعيد ترسيخ مكانتها في القرن الإفريقي لمجابهة إثيوبيا وإعادة التوازن إلى المنطقة باعتبارها قوة إقليمية مؤثرة ولفرض نفسها على طاولة المفاوضات في أي محادثات مستقبلية حول مياه النيل. يتكل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في عهده على خطابات الأمن القومي وتجديد القوة المصرية، وهو يتعرّض لضغوط هائلة كي يمنع خسارة مصر لمطالبها في النيل. نتيجةً لذلك، سعت حكومته إلى التقرب من دول أخرى في القرن الإفريقي وإحداث شرخ بين إثيوبيا والبلدان المجاورة لها.

ترتكز هذه الاستراتيجية جزئياً على تكثيف الزخم الدبلوماسي لتعزيز التعاون في منطقة البحر الأحمر بما يصبّ في مصلحة مصر. نشأ مجلس عربي إفريقي جديد في بناير الماضي، بدعمٍ من المملكة العربية السعودية، وهو يهدف إلى تحسين التعاون في البحر الأحمر وخليج عدن. حملت القاهرة في البداية تحفظات كبرى بشأن تلك المبادرة لكنها انضمّت إليها في مطلق الأحوال لتحقيق هدف مهم: إنشاء تحالف إقليمي يشمل مصر والدول الساحلية في القرن الإفريقي لكنه يستثني إثيوبيا.

على صعيد آخر، تهدف استراتيجية القاهرة أيضاً إلى تحسين التعاون الدبلوماسي والأمني الثنائي مع الدول الإقليمية. لقد نجحت القاهرة في توثيق روابطها مع السودان، فأنشأت ولو ظاهرياً اصطفافاً بين القاهرة والخرطوم حول سد النهضة الإثيوبي الكبير، وسعت في الوقت نفسه إلى تحديث العلاقات الدبلوماسية مع أرض الصومال التي تطالب بالاستقلال عن مقديشو، وحاولت إنشاء منطقة تجارية حرة (لفترة قصيرة على الأقل) في جيبوتي، ويُقال إنها باعت الأسلحة للصومال بما ينتهك قرار حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة. كذلك، تسري شائعات مفادها أن قوات الأمن المصرية حصلت على قاعدة عسكرية في جنوب السودان. أنكرت العاصمة جوبا تلك التقارير مع أنها تتماشى مع نمط الالتزامات المصرية تجاه جنوب السودان في السنوات القليلة الماضية. أخيراً، يبرز دور إريتريا التي طوّرت مصر علاقاتها الدبلوماسية معها لسنوات وهي تؤيد آراء القاهرة حول بعض المسائل الإقليمية، منها العملية الانتقالية السياسية المستمرة في السودان.

ردّت إثيوبيا على هذه التحركات بخطة طموحة لبناء قوات بحرية على أمل أن تسمح لها بفرض نفوذها في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن والتصدي للقوة البحرية المصرية هناك. سبق وعقدت أديس أبابا شراكات سياسية واقتصادية عميقة في أنحاء القرن الإفريقي وسعت أيضاً إلى تجاوز نقاط ضعفها مع البلدان المجاورة لها. بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد الذي وصل إلى السلطة في العام 2018، بدأت إثيوبيا تقارباً تاريخياً مع عدوتها اللدودة إريتريا وعقدت "تحالفاً ثلاثياً" جديداً مع ذلك البلد والصومال. أراد آبي أن يُمهّد ذلك التحالف لحقبة جديدة من السلام الإقليمي والتكامل في القرن الإفريقي، على أن تكون إثيوبيا مركز ثقل في المنطقة. لكن تبيّن أن هذه الرؤية صعبة التنفيذ. يرتبط آبي بعلاقات شخصية ودّية مع رئيس إريتريا أسياس أفورقي، لكن لا تزال الروابط الثنائية بين البلدين غير رسمية وتتوقف جزئياً على مدى استعداد رئيس الوزراء الإثيوبي لتهميش أعداء إريتريا المنظورين داخل إثيوبيا. أكثر ما يثير القلق هو نجاح التحالف الثلاثي في إضعاف علاقات إثيوبيا مع حلفائها التاريخيين جيبوتي وأرض الصومال وكينيا: تخشى جيبوتي تداعيات التقارب بين إريتريا وإثيوبيا بسبب خصومتها مع العاصمة أسمرة. في المقابل، يشعر المسؤولون في أرض الصومال وكينيا بالقلق من علاقات آبي مع مقديشو.

اضطربت العلاقة بين إثيوبيا والسودان في السنة الأخيرة من عهد الرئيس عمر البشير أيضاً. كانت الروابط بين البلدين قوية، لا سيما بعدما دعم البشير سد النهضة الإثيوبي الكبير في عام 2012. لكن على غرار نظيره في جيبوتي، لم يُسَرّ الزعيم السوداني من التقارب بين إريتريا وإثيوبيا. بدا وكأن تلك العلاقات تحسنت مجدداً منذ سقوط البشير في نيسان 2019، لكن لا يزال التوتر مع الحكومة الانتقالية السودانية قائماً. أدى نزاع حدودي خامد منذ وقتٍ طويل إلى اشتباكات عسكرية خطيرة بين البلدين في مايو ويونيو من هذه السنة ودفع جنرالات السودان إلى تبنّي خطاب صارم وغير مألوف.

حتى الصومال قد تشهد اضطرابات مرتقبة، علماً أن إثيوبيا قامت برهان سياسي كبير هناك على الرئيس محمد عبدالله محمد، فقدّمت له دعماً سياسياً وعسكرياً لمواجهة خصومه المحليين. في المقابل، أطلق محمد مناورة طموحة لزيادة نفوذ الحكومة الاتحادية في آخر سنتين، وقد تُضعِف هذه الخطوة فرص إعادة انتخابه في عام 2021 وتترك إثيوبيا من دون أي حليف في القصر الرئاسي. بعبارة أخرى، لا تزال العلاقات الدولية مع القرن الإفريقي غير مستقرة وتُضاف مساعي إثيوبيا ومصر للتفوق دبلوماسياً إلى خليطٍ من العوامل المتفجرة أصلاً.

عمليات انتقالية مضطربة

ربما أدى النزاع على النيل إلى زيادة الاضطرابات في علاقات الدول في القرن الإفريقي، لكنه لم يهدئ السياسات المحلية في البلدان المعنية أيضاً. أصبح الوضع في إثيوبيا هشاً. استلم آبي السلطة في عام 2018 وأطلق سريعاً سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية المنتظرة، منها توسيع نطاق عمل وسائل الإعلام المستقلة والترحيب بجماعات المعارضة المنفية في الوطن مجدداً. لكن حتى قبل أن يتمكن البلد من تنظيم انتخابات وطنية، بدأت العملية الانتقالية الديمقراطية تتصدع. أدت فصول متكررة من العنف العرقي نتيجة القتال الداخلي بين القوى السياسية الكبرى في البلد إلى تضييق نطاق السياسات الديمقراطية. وفي أواخر شهر حزيران، أدى اغتيال مغني له شعبية واسعة إلى اندلاع أعمال شغب عنيفة لأيام في منطقة "أوروميا". ردّت حكومة آبي على هذه الأحداث بقمع خصومها واتهامهم باستغلال البيئة المشحونة سياسياً للتحريض على العنف والفوضى. اعتُقِل عدد كبير من أبرز منتقدي الحزب الحاكم اليوم وأصبحت نشاطاتهم الإعلامية محدودة.

في ظل هذه الظروف، من الواضح أن سد النهضة الإثيوبي الكبير يوحّد الإثيوبيين ويقسمهم في آن. لقد أصبح السد رمزاً وطنياً للتقدم وهو يحظى بدعم جميع الإثيوبيين تقريباً. لكن حوّلت الفصائل السياسية هذا المشروع إلى سلاح لتجريد خصومها من شرعيتهم وإعاقة مساعي الحوار. لطالما اتّهم المنتقدون آبي بإضعاف سد النهضة وتهديد المصالح الوطنية، في إشارةٍ إلى تحقيق كبير بممارسات الفساد يطاول المقاول العسكري الذي أدى دوراً رائداً في بناء السد. في مراحل معيّنة، بدا وكأن "حزب الازدهار" الحاكم بقيادة آبي يعمل على إعادة تأهيل قواعد أسلافه عبر تصوير منافسيه القوميين الإثنيين كعملاء لمصر وجزء من حملة تخريب واسعة. رغم وجود قوى بارزة تقاتل ضده، تُعتبر هذه الحملة المتبادلة من نزع الشرعية جزءاً من عوامل عدة تُقرّب إثيوبيا من الحرب الأهلية.

على صعيد آخر، تُمعن سياسات النيل في تعقيد العملية الانتقالية الديمقراطية الناشئة في السودان المجاور. لطالما كانت مصر تهتم بكسب تأييد الخرطوم في النزاعات على المياه ولم تعتبر حكومة البشير يوماً شريكة موثوقاً بها: ينجم هذا التوجه عن دعم البشير لسد النهضة. حين اقترب نظام البشير من نهاية عهده في بداية عام 2019، وافقت قوات الأمن المصرية، فضلاً عن شركائها الخليجيين، على الانقلاب العسكري الذي أنهى حكمه القائم منذ 30 سنة. بين ابريل ويوليو 2019، استعملت مصر مكانتها كرئيسة الاتحاد الإفريقي لحماية المجلس العسكري الانتقالي: إنه الطرف الخفيّ الذي يديره الجنرالات السودانيون وسارع لملء فراغ السلطة الذي خلّفه البشير بعد سقوطه. تبقى الروابط بين الجيشين المصري والسوداني عميقة. تدرّب عدد كبير من ضباط الجيش السودانيين في أكاديميات مصرية وحافظوا على علاقات شخصية مع نظرائهم المصريين. نتيجةً لذلك، يبقى الجيش أول شريك تلجأ إليه مصر، حتى لو حاول المجتمع الدولي دعم القادة المدنيين داخل الحكومة الانتقالية الجديدة بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك.

بشكل عام، لطالما دعمت أديس أبابا حمدوك والعملية الانتقالية بقيادة مسؤولين مدنيين في السودان، لكن يجب ألا تُبعِد نفسها عن الجيش بالكامل خشية أن تتغير الرياح السياسية في السودان وتجد إثيوبيا نفسها متروكة في الخرطوم التي تخضع لسيطرة العسكريين. لهذا السبب، تسمح سياسة التنافس الإقليمي للمسؤولين العسكريين في حكومة السودان بالاحتفاظ بسيطرة جزئية على السلطة. أصبح الجنرالات اليوم أضعف مما كانوا عليه في أفضل أيام عهد البشير، لكنهم يشكّلون حتى الآن عائقاً كبيراً أمام الإصلاح الديمقراطي.

اضطرابات طويلة الأمد

حتى لو أصبح سد النهضة الإثيوبي الكبير جاهزاً للعمل بالكامل وتم التوصل إلى تسوية معيّنة، سيبقى الخلاف قائماً بين مصر وإثيوبيا. أمام هذا الوضع، يجب أن يُركّز اللاعبون الخارجيون من أصحاب النفوذ في حوض نهر النيل على تأمين اتفاق حول السد، فضلاً عن السيطرة على التداعيات الإقليمية المحتملة للمنافسة الاستراتيجية المطوّلة على النيل.

لكن تَقِلّ القوى الخارجية القادرة على لعب دور الوساطة في هذا النزاع. بدأت إثيوبيا تقتنع بأن الولايات المتحدة تميل إلى تأييد مصر في المفاوضات حول سد النهضة الإثيوبي الكبير. في الوقت نفسه، تبدو علاقات المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مع القاهرة والخرطوم وأديس أبابا قوية، لكنهما تميلان إلى تفضيل استقرار مصر على المسائل المرتبطة بنهر النيل. سبق ودعم البلدان القرارات المصرية التي تؤثر على إثيوبيا في جامعة الدول العربية. تتمتع الصين من جهتها بالمكانة اللازمة لأداء دور الوساطة، لكنها لم تعبّر عن استعدادها لتطبيق دبلوماسية عالية المخاطر لحل النزاعات المثيرة للجدل في القرن الإفريقي.

نتيجةً لذلك، يجب أن يشتق الاستقرار في حوض نهر النيل والقرن الإفريقي من داخل المنطقة نفسها، إذا افترضنا أنه خيار وارد أصلاً. تبدو الجهود الأخيرة التي يبذلها الاتحاد الإفريقي لأداء دور الوساطة في النزاع القائم حول سد النهضة الإثيوبي الكبير بمثابة اعتراف بهذا الواقع. لكن كما حصل خلال المفاوضات السابقة، يصعب أن يحافظ المعنيون على الزخم الدبلوماسي المطلوب. وفي ظل غياب أي جهود جدّية ومتعددة الجوانب لحل قضايا المياه العالقة في المنطقة، سيبقى النيل مصدراً لانعدام الاستقرار السياسي خلال السنوات المقبلة.

* مايكل وولدمريم – فورين أفيرز