حين تكون أمام جدار فإنك لا تعلم ما خلفه، لكنك ستضطر إلى استخدام أدواتك الممكنة لمعرفة ذلك، فإن عجزت فستكون أمام خيارين إما الاستسلام أمام هذا العجز أو افتراض الحقيقة الكامنة خلفه عبر الاعتماد على مخزون التجارب الشخصية، ثم استخدام قدرتك في السيطرة على الآخرين وفرض ما ليس موجودا من خلال استغلال حالات الخوف والثقة والرجاء التي تسيطر على تفكير الآخرين.

وأما في الجانبين العلمي والفكري فإن عملية صناعة الأفكار تعتمد على ثقافة الصانع وقدرته على توليد أفكار جديدة من خلال استخدام المخزون العقلي الثقافي والتجريبي، وهي عملية مركبة ومتشعبة لكنها تشبه عملية النظر الى الجدار لمعرفة ما خلفه، وفي الجدران الفكرية يمكن استغلال حواس الشخص الفكرية في نشر افتراضات غالباً ما تكون غير صحيحة أو غير ممكنة، لكن يتم فرضها على الآخرين عبر حالات الخوف والثقة والرجاء ووسائل السيطرة الأخرى.

Ad

ولعل العلم والفكر يتشابهان من حيث الاكتساب والعمل وطبائع الأساتذة في الحقلين، ومثلما تزداد أهمية أستاذ العلم حين يتعمق في العلم المتعارف عليه، فإن أهميته تزداد حين يتعمق في الفكر المتعارف عليه، ومثلما مساحة العلم لا تتوقف عند حد، فمساحة الفكر كذلك لا تتوقف عند حد، وهنا يكمن تفوق بعض الأساتذة في كل حقل من الحقلين على منافسيهم، وتكمن كذلك خطورة انحراف الأساتذة، إما من خلال إخفائهم للحقائق التي توصلوا لها، أو من خلال نشرهم افتراضات على أنها حقائق رغم أنها لم تصل الى درجة حقائق، وخطورة ذلك تكمن في جهل الناس بما وراء العلم وما وراء الفكر واستسلامهم لما يطرحه أساتذتهم الذين وثقوا بهم وارتضوا أن يكونوا تلاميذ في رحابهم.

وربما يكون التعامل مع الحقائق العلمية أسهل من التعامل مع الحقائق الفكرية لأنها خاضعة لمعادلات رياضية أو تجارب مخبرية أو معادلات تطبيقية، وبالتالي فإن الخلافات بين الأساتذة في مجال العلوم نادرة وتخضع إلى فوارق العلم بينهم.

وإن التعامل مع الحقائق الفكرية على أنها حقائق مطلقة يعتمد على الولاء للمفكر أو تدخل السلطة لفرض أفكاره وتجريم تلقي الأفكار المخالفة، ومن خلال الولاء للمفكر أو دعم السلطة تتحول الفرضية إلى حقيقة مطلقة، فيقوم الكثير من البناء الفكري اللاحق على افتراضات سابقة غالباً ما تكون غير صحيحة، ليكون ما بني على باطل باطلا.

ولذلك فإن الكثير من الحقائق الفكرية المطلقة يتم إخفاؤها أو تشويهها بسبب المصالح المتشعبة، والكثير من الافتراضات تتحول إلى حقائق مطلقة بسبب المصالح المتشعبة، فكم من حقيقة ثابتة اختفت عبر الزمن وويل لمن يحاول أن يحييها، وكم من كذبة تحولت إلى حقيقة مطلقة عبر الزمن، وويل لمن يحاول دحضها، وكم من أستاذ لا يستحق أن يكون أستاذاً في رحاب الفكر، وكم من أستاذ تم إخفاء اسمه من كشوف الأساتذة عبر التاريخ، والغريب أن السلطة تنتصر للسلطة عبر التاريخ، والمفكر يحمي المفكر مهما تباعدت بينهما السنون ما دام نمط السلطة اللاحقة شبيها لنمط السلطة السابقة، وما دام النسق الفكري المتبع للمفكر اللاحق يعتمد على الفكر السابق كأساس بنائي فكري، فالفساد بين المفكرين شائع، كالفساد بين السلطات أو بين مفكر ومفكر.