عذراً أبا حمد...

فقد تأخرت في الكتابة إليك، ليس عن غيض في العاطفة، بل عن فيض في الشجن، فما زلت أفزع من مضمون النعي إلى تخدير الوعي، بعدما مررتُ به ومرَّ علي في ذاك الأسبوع الذي تواصلت فيه ليالي الذهول مع نهارات الهروب. فقط عندما أصدق أنك قد رحلت سأدرك عمق الأسى الذي تركته لي، والذي لا يواسيني فيه إلا اطمئناني عليك، بعد أن ألقيتَ عنك مئزر الوجع، ورميت من يديك ما كان يساعد رئتيك. أما اليوم، فما زلت أصدم كل صباح عندما لا أجد على هاتفي تغريدتك الحلوة: "صباح الخير".

Ad

عذراً أبا حمد...

أنا أكتب إليك، ولا أكتب عنك، لأن من عرفك لا يحتاج أن يقرأ ما يعرف، ومن لم يحظَ بمعرفتك فلن تستطيع الكلمات - مهما صدقت- أن تعوض له خسارته، فاليوم لم تعد الألفاظ أداة إفصاح، إذ خلع الشعور رداء الكلمات ليتوهج شوقاً إلى عباءة موشاة تعبق طيباً وبخوراً، وتنسدل فوق قامة أرهقها الإباء ولم تنحنِ إلا في صلواتها.

لقد سلكنا معاً في دروب الحياة سنوات، وعشنا معاً حب الكويت وهم الأمة صباحات وعشيات، ما شابها كدر ولا حذر، للحظة واحدة مهما اختلف الرأي، ومهما طال الحوار. ولكنك رحلت دون فرصة وداع، لأقول لك كم تمتعت بصحبتك، يا نعم الزميل ونعم الرفيق، ونعم الوفي ونعم الصديق. ولأقول لك إنك كنت في حياتي زخة من سحاب رهيف؛ تغسل التعب، تمسح الحزن، تزيل رائحة العرق عن الجبين، وترسم نظرة رضا في العينين. واليوم بعد أن أوغلت رحيلاً إلى أكرم الأكرمين، انفض سامرنا... إلى حين، أنتظر.

ووعدك بأن تحضر حفل تكريمي وأن تتكلم فيه، الحفل ألغاه الوباء، ولكني أجزم أنك وحدك ستحضره وتتكلم فيه، وسيكون لحضورك هيبة الحقيقة، وسيكون لكلمتك بلاغة الصمت، وسأصفق فرحاً بك دون أن أوقظ الآخرين.

عذراً أبا حمد...

فقد أثقلت عليك، ولكن يصعب علي أن أختم رسالتي دون أن أسألك:

هل أتاك حديث بيروت؟ المدينة التي عشقت مصيفاً ومتربعاً في الشباب، واعتزالاً مع كثير من نفسك في سكينة العمر، تسافر فوق موج بحرها ساعات تحدق في لا شيء، وتفكر في كل شيء، وتقصد جبلها، لعل نسماته العابقة بعبير الصنوبر تغسل عن صدرك الكليل هم الوطن والولد وانتظار الرحيل.

يقولون إنكم أنتم أهل "دار البقاء" تشاهدون من فوق ما يجري لدينا نحن سكان "الدار الفانية"، فإن كان الأمر كذلك، فأخبرني - يا رحمك الله- كيف تنتحر المدن؟ كيف يقتل الأبناء أمهم؟ كيف يلبس الغدر رداء الجهاد؟ وكيف يرى ذوو القربى كل هذا ثم لا يتعظون؟

أبا حمد، لا تتعجل الرد علي، فأغلب الظن أني لن أتاخر في القدوم إليك.

أحمد الهارون، أيها العزيز... إلى لقاء.