لطالما كان مرفأ بيروت بنية تحتية أساسية في الاقتصاد اللبناني الذي أُعيد إحياؤه بعد 15 سنة من الحرب الأهلية، لكن سرعان ما اختفى لبنان الذي انبثق من تلك الأنقاض، فاختنق تدريجياً بسبب طبقته السياسية غير الجديرة بالثقة، وقبل أيام انهار البلد بالكامل، حيث تدمّر مرفأ بيروت خلال انفجار أسفر عن مقتل 100 شخص على الأقل وإصابة أكثر من 4 آلاف آخرين وتدمير أحياء سكنية كاملة في العاصمة، وأصبح لبنان اليوم يواجه نوعاً جديداً من الكوارث ويبدو أن عقود الحرب والفوضى السياسية كانت مجرّد مرحلة تحضيرية رديئة لما يحصل راهناً.

وفق المعطيات المتاحة حتى الآن، لا تتعلق كارثة المرفأ بالجهات المشبوهة الاعتيادية، أي حزب الله وإسرائيل والإرهاب الجهادي والنظام السوري، بل إن الحقيقة مملة ومزعجة بدرجات إضافية: يبدو أن عقوداً من الفساد المستفحل على جميع المستويات في المؤسسات اللبنانية هي التي دمّرت مرفأ بيروت ومعظم مناطق العاصمة وقتلت أعداداً كبيرة من الناس، وقد تفسّر سخافة السبب الكامن وراء الانفجار حجم العقوبات والإهانة التي يتعرّض لها لبنان.

Ad

المرافئ في لبنان معاقل أساسية لمختلف الفصائل السياسية والإجرامية والميليشياوية، حيث تسيطر أجهزة أمنية متعددة، وبمستويات مختلفة من الكفاءة والولاءات السياسية، على جميع عملياتها، كذلك تخضع معايير التوظيف في المناصب البيروقراطية المدنية للتحاصص السياسي أو الطائفي، وتسود ثقافة طاغية من الإهمال والفساد وتبادل اللوم في الأوساط البيروقراطية اللبنانية، وتُشرف عليها طبقة سياسية معروفة بقلة كفاءتها وازدرائها بالمصلحة العامة.

لن تقتصر عواقب الانفجار الأخير على الضحايا والأضرار المادية، فقد تدمّرت صومعة الحبوب الأساسية التي تشمل نحو 85% من الكميات الإجمالية في البلد وسيعجز المرفأ عن تلقي أي سلع، كما أن يستورد لبنان 80% من منتجاته، بما في ذلك 90% من القمح الذي يُستعمل لصنع الخبز. ويصل حوالي 60% من تلك الواردات عبر مرفأ بيروت... هذا ما كان يحصل في الماضي على الأقل!

كان توقيت الانفجار الأخير الأسوأ على الإطلاق، حيث بدأت الأزمة الاقتصادية تدمّر لبنان منذ بضعة أشهر وانهارت العملة المحلية ويعجز مئات آلاف الناس اليوم عن شراء الوقود والطعام والأدوية.

في الوقت نفسه، فرضت أزمة فيروس كورونا ضغوطاً هائلة على القطاع الصحي، وبعد انفجار المرفأ، تفيد التقارير بأن الطواقم الطبية تعالج المصابين في الشوارع ومواقف السيارات، حتى أن هذا الانفجار قد يُمهّد لكارثة غذائية وصحية لم يشهدها لبنان في أسوأ حروبه.

يجب أن تحافظ الطبقة السياسية اللبنانية على تأهبها في الأسابيع المقبلة، ولا شك أن الصدمة الأخيرة ستتحول إلى غضب عارم، لكنّ الممارسات القديمة لا تتلاشى بسهولة، فهؤلاء السياسيون يتقنون تبادل اللوم، ومن المستبعد أن تحصل استقالات رفيعة المستوى أو تصدر اعترافات واضحة بالمسؤولية.

هل ستندلع أي ثورة أو انتفاضة غضب في المرحلة المقبلة إذاً؟ يجب أن تواجه أي تحركات ثورية الولاءات القبلية والطائفية والأيديولوجية، وحتى الوقائع مُهددة بالانهيار لا سيما إذا صدرت نسخة رسمية واحدة عن حادثة المرفأ، فلن يصدّقها البعض حتى لو كانت حقيقية. باختصار، تزيد صعوبة توحّد الناس ضد السياسيين بسبب قلة ثقتهم بهم.

العوائق القائمة كثيرة وحقيقية، لكن لم تكن الحاجة إلى الإصلاح والمحاسبة مُلحّة بهذا القدر يوماً، إذ تتطلب هذه الجهود كبح النزعة إلى التضحية بالمسؤولين الأقل مستوى، ويصعب أن نتخيّل نشوء حركة وطنية مُنسّقة ومستدامة لأنها لم تتبلور يوماً على أرض الواقع، لكن قد يتغير هذا الوضع بسبب الجوع وانهيار القطاع الصحي.

يحتاج لبنان واللبنانيون عموماً إلى تدفق سريع للمساعدات الخارجية لدرء النقص الغذائي الحاد وكوارث الصحة العامة، حيث تأتي هذه المساعدات من أنحاء الشرق الأوسط والعالم لكنها لن توقف انهيار البلد، بل إن المساعدات الطارئة ستُضخّم مظاهر الذل والعجز العام، فقد أوضح انفجار المرفأ أن لبنان لم يعد بلداً مناسباً كي يعيش فيه الناس المحترمون حياة آمنة ومُرضِية.

لا أهمية للتفاصيل الصغيرة اليوم لأن المرفأ تدمّر بالكامل، ومن المتوقع أن ينشغل اللبنانيون بالبقاء على قيد الحياة أكثر من تحريك عجلة التقدم.

* فيصل عيتاني

* «نيويورك تايمز»