في وقت سابق من هذا الشهر، استأنفت روسيا سعيها لإشراك الأكراد من شمال وشرق سورية في طاولة المفاوضات مع حكومة بشار الأسد، حتى عندما دعمت النظام في الوقت نفسه من خلال تخفيف قرار الأمم المتحدة بشأن المساعدة الإنسانية عبر الحدود إلى هذين الجزأين من البلاد. وبالمثل، ظلت علاقة موسكو مع الأكراد العراقيين قوية حتى في الوقت الذي يسلط فيه الكرملين الضوء الأخضر على الجيش التركي لشنّ عمليات ضدّ الأكراد السوريين في الدولة المجاورة، وهي العمليات التي تتوسع بشكل متزايد في «إقليم كردستان العراق» وتجعل مسؤولي «اقليم كردستان» أكثر توتراً وانقساماً يوماً بعد يوم.

وداخل روسيا، يتحدث كبار المسؤولين والمحللين باستمرار عن أهمية الأكراد و»القضية الكردية» في المنطقة، وبغض النظر عن المصالح الحقيقية الكامنة وراء هذه المشاعر، ستواصل موسكو الاستفادة من علاقتها العميقة والمتعددة الأوجه مع مختلف الجماعات الكردية طالما استمرت الصراعات حول قضيتهم، ليس فقط لتعزيز مكانتها في المنطقة، ولكن أيضاً لجر الأكراد بعيداً عن الولايات المتحدة.

Ad

روابط طويلة الأمد

لم تقم أي دولة بتوفير رعاية للأكراد مادامت روسيا تتولى تقديمها، ويعود تاريخ هذه الروابط بين الأكراد وروسيا إلى عهد كاثرين العظمى حين تصادمت روسيا الإمبريالية مع الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية، وواجهت قبائل كردية بدوية، وحّولت الأكراد الإيزيديين إلى أتباع لها خلال الغزوات في القوقاز. وكان القادة الروس ينظرون إلى الأكراد بشكل متزايد على أنهم وسيلة ضغط ضد المنافسين العثمانيين والفرس، في حين اعتبر الأكراد الإمبراطورية الروسية على أنها الراعي الرئيسي لهم، ولا سيما في أوائل القرن العشرين.

ولم يسلم الأكراد من «الإرهاب العظيم» الذي مارسه جوزيف ستالين، ومع ذلك ظلوا يشغلون حيزاً كبيراً من تفكير القيادة السوفياتية، وبالتالي، في عام 1946، دعمت موسكو مجموعة من الأكراد الذين أعلنوا قيام «جمهورية مهاباد» في شمال إيران، وبعد سقوط الجمهورية بحلول نهاية ذلك العام، لجأ الزعيم الكردي العراقي مصطفى بارزاني، جنرال في جيش مهاباد ومؤسس «الحزب الديمقراطي الكردستاني»، إلى الاتحاد السوفياتي مع رفاقه حيث بقي أكثر من عقد من الزمن، وفي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، دعم الكرملين الحكم الذاتي الكردي في العراق للتضييق على بغداد، وساهمت ضغوطه في التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي للأكراد عام 1970.

وفي أواخر السبعينيات، عندما كانت سورية دولة حليفة سوفياتية كبرى، بدأ «حزب العمال الكردستاني» بزعامة عبد الله أوجلان حملة تمرد طويلة ضد تركيا، جرى في إطارها أحياناً تنفيذ بعض العمليات من وادي البقاع اللبناني الذي كان محتلاً من قبل سورية، من بين مواقع أخرى، وعزّز «حزب العمال الكردستاني» موقعه في فلك موسكو على مر السنين، ومنحت معارضته المسلحة للحكومة التركية القادة الروس نفوذاً مفيداً على أنقرة، وبالتالي على حلف «الناتو». وواصل الكرملين استخدام هذه الورقة الرابحة الكردية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، مما سمح لـ«حزب العمال الكردستاني» بفتح مكتب تمثيلي له في موسكو ومنْح أوجلان ملجأ بعد طرده من سورية في عام 1998، ووفقاً لصحيفة «موسكو تايمز»، كان ما يصل إلى 200.000 كردي يعيشون في منطقة موسكو بحلول عام 1999، كما انتشر حوالي مليون كردي في جميع أنحاء الاتحاد السوفياتي السابق.

غالباً ما يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وكبار المسؤولين الآخرين على علاقة روسيا التاريخية الخاصة بالشعب الكردي، مشيدين بشجاعتهم في مواجهة «المصير الصعب» وفعاليتهم في مكافحة الإرهاب.

ولكن في الواقع، إن إبعاد الأكراد عن واشنطن هو الدافع الرئيسي لسياسات روسيا الداعمة تجاههم، ففي أواخر العام الماضي، على سبيل المثال، ادّعى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن المسؤولين الأميركيين كانوا يمنعون الحوار بين الأكراد السوريين ودمشق، كما حذر الأكراد من المراهنة على الولايات المتحدة لأن قواتها كانت متواجدة في سورية «بصورة غير قانونية»، على عكس القوات الروسية. وأعرب بوتين عن مشاعر مماثلة في نوفمبر الماضي بقوله: «ما تم تحقيقه الآن على حدود سورية وتركيا يتم أيضاً بدعم الأكراد ويصب في مصالحهم... فالناس يرون ويفهمون أن الجيش الروسي قد جاء لحمايتهم».

وبصرف النظر عن استخدام هذه القضية كهراوة ضد واشنطن، فإن موسكو متأرجحة إلى حد كبير بشأن تقرير المصير الكردي، وعند رده على سؤال حول الحكم الذاتي الكردي العراقي في ديسمبر 2016، ادّعى بوتين «نحن لا نتدخل في الشؤون الداخلية العراقية». بالطبع، ليس لدى موسكو هواجس حول التدخل في بعض البلدان عندما يناسب ذلك مصالحها، وفي هذه الحالة، تفضل ببساطة البقاء خارج هذه القضية.

لكن حتى سياسة متناقضة أتت ثمارها مع الأكراد، فعندما أجرى «إقليم كردستان العراق» استفتاءً حول الاستقلال في سبتمبر2017، اتخذت روسيا موقفاً محايداً بشأن هذه الخطوة في حين عارضتها رسمياً الولايات المتحدة وكل جهة فاعلة أجنبية أخرى تقريباً، ووسط ردود الفعل السلبية الدولية التي سبقت الاستفتاء وأعقبته، اكتسبت موسكو مرونة أكبر من خلال إطلاقها مشاريع طاقة إضافية في «إقليم كردستان» الذي كان بأمس الحاجة إلى الأموال النقدية، حيث وضعت نفسها في النهاية في مركز تُعتبر فيه أفضل جهة فاعلة في مجال النفط والغاز الطبيعي في المنطقة.

وفي فبراير 2017، على سبيل المثال، قدم عملاق الطاقة الروسي «روسنفت» قرضاً لـ«إقليم كردستان العراق» قدره حوالي 3.5 مليارات دولار، ووقّع عقوداً لتطوير خمس كتل لإنتاج النفط، واستثمر في البنية التحتية المحلية لتصدير النفط والغاز، وبقيامها بذلك، أنقذت موسكو بشكل أساسي «إقليم كردستان العراق» الذي كان يقف عند مفترق طرق حاسم وأعطت الأكراد المزيد من النفوذ على بغداد، وفي مايو 2018، وقّع «إقليم كردستان العراق» على اتفاقية مع «روسنفت» بشأن البنية التحتية للغاز ووافق على بناء خط أنابيب إلى تركيا، الأمر الذي مكّن موسكو بالتالي من التدخل في علاقات الطاقة الكردية العراقية مع أنقرة. وفي الآونة الأخيرة، أدّت العمليات العسكرية الجارية التي تقوم بها تركيا في «إقليم كردستان العراق» إلى تعميق الخلافات بين الأكراد، وبإمكان روسيا الاستفادة من الاضطرابات من خلال المزيد من الصفقات أو غيرها من عمليات التواصل مع الفصائل الفردية.

وفي سورية، استغلت روسيا الأكراد ورقة مفيدة طوال الحرب، وذلك للحفاظ على الأسد في السلطة وإقناع تركيا بتغيير موقفها تجاهه على حد سواء، وعلى عكس واشنطن، لم يصنف الكرملين «حزب العمال الكردستاني» منظمة إرهابية، وقد حافظ «حزب الاتحاد الديمقراطي» السوري الذي يدور في فلك «حزب العمال الكردستاني» على مكتب له في موسكو منذ فبراير 2016، ويعكس ذلك انتقام بوتين الواضح من تركيا بسبب إسقاطها طائرة عسكرية روسية كانت قد دخلت مجالها الجوي في نوفمبر 2015.

وفي حديثه عن الأكراد السوريين في ديسمبر 2019، أكد لافروف أنه يجب إعطاء الأسد السيطرة على جميع الأراضي السورية «على أساس أنه يجب أن يتم توفير ما يحتاجه الأكراد في أماكن إقامتهم التقليدية». وفي الواقع، تعْرِض موسكو نفسها كوسيط وتصر على إدراج الحقوق القانونية الكردية في الدستور السوري، ولكن هدفها الرئيسي هو دعم الأسد، الرئيس السوري الذي يُشبّه الحكم الذاتي الكردي بتقسيم البلاد ويقول إنه لا يستطيع الموافقة عليه.

ومن جانبهم، يواصل الأكراد السوريون تعليق آمال أكبر على الولايات المتحدة من تلك التي يعلقونها على روسيا، ويعزى ذلك عموماً إلى أن التعاون العسكري الأميركي-الكردي كان أفضل وسيلة لإثارة غضب تركيا. ومع ذلك، حالما أعلنت واشنطن أنها ستنسحب من سورية، لم يعد أمام الأكراد خيار آخر سوى التقرب أكثر من موسكو والأسد، الأمر الذي منح بوتين فرصة لتعميق العلاقات معهم وتأسيس قوة عسكرية جديدة في شمال شرق البلاد.

المصلحة الذاتية

إلى جانب المكاسب التكتيكية المؤقتة، لم يستفد الأكراد السوريون من الدعم الروسي، بل على العكس تماماً - في أوائل عام 2018، قُتل مئات المدنيين الأكراد نتيجة لـ«عملية غصن الزيتون» التي قامت بها تركيا في عفرين، وهو هجوم لم يكن من الممكن أن يتقدم دون موافقة موسكو وتنسيقها. وفي ذلك الوقت، اتهم القائد العسكري لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي»، سيبان هامو، روسيا بخيانة الأكراد، بينما اتهمت موسكو الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في حدوث الوفيات.

وبالمثل، لم تفعل موسكو شيئاً للحد من الهجوم التركي الحالي في شمال العراق. وطالما تستفيد روسيا من صراعات تركيا مع الأكراد، فإن المصلحة الذاتية وليست المخاوف الإنسانية هي التي ستستمر في دفع عملية صنع القرار.

ومع ذلك، فإن التعاون الكردي مع روسيا أمر مفهوم لأن أي مجتمع في وضع الأكراد سيطلب أي دعم خارجي يمكنه الحصول عليه. وكما قال مصطفى بارزاني ذات مرة: «أنا مثل المتسول الأعمى... لا أبالي بمن يضع المال في يدي». وبينما لا ينبغي النظر إلى الجماعات الكردية بشكل موحّد، فإن العديد من قادتها يميلون إلى الشعور بالارتياح في التعامل مع روسيا نظراً لتاريخهم الطويل معاً، وواقع عدم قيام موسكو في الضغط عليهم في القضايا الداخلية الحساسة مثل حقوق الإنسان والفساد. والأهم من ذلك، أثبتت التجربة أنه لا يمكنهم ببساطة الاعتماد على الدعم الغربي. وقد عزز هذا التصور قرار إدارة ترامب المفاجئ بالانسحاب من شمال سورية في ديسمبر الماضي، وبذلك تُرِكت القوات الكردية تحت رحمة غزو القوات التركية ووكلائها، مما أدّى في النهاية إلى اقترابها من بوتين والأسد من أجل إنهاء المذبحة.

وبالنظر إلى هذه الديناميكيات، يجب على المسؤولين الغربيين ألا يستهينوا بنفوذ موسكو عندما تتعاون مع الأكراد في سورية والعراق ودول أخرى، ففي حين يواصل الكرملين السعي وراء مصالحه في الشرق الأوسط بطريقة تهكمية، ووحشية، ومزعزعة للاستقرار في كثير من الأحيان، يتعين على الغرب اكتساب نفوذ أكبر في هذه المجتمعات الكردية.

*آنا بورشفسكايا