أشرح في البداية "تلفريك جونية" لمن لا يعرفه، فبعد الخروج من بيروت في الاتجاه إلى الشمال اللبناني بمحاذاة الطريق الساحلي للبحر، لمسافة لا تزيد على العشرين كيلومتراً، سوف تشاهد مرتفعات جبلية عالية ناحية اليمين، وبينها وبين البحر كبائن كأنها تطير في الهواء، وعندما تقترب تشاهدها مشدودة بسلك سميك، وتتسع كل واحدة منها لأربعة أشخاص، وتسير وهي معلَّقة بالهواء في اتجاهين متضادين لمسافة كيلومترين تقريباً، صعوداً للجبل، ونزولاً إلى السهل. والجالس في هذه الكبينة يكون على ارتفاع عالٍ جداً عن الأرض، ويشعر كأنه يركب طائرة صغيرة، ويشاهد تحته البيوت والأشجار والمناظر الطبيعية.

أما منطقة جونية، فهي سياحية بالدرجة الأولى، ففيها شارع الكسليك المشهور بمحاله الراقية والماركات العالمية، وفيه كذلك السوق القديم، الذي يسمونه "السوق العتيق"، وأيضاً ليست بعيدة "مغارة جعيتا"، ولها من الشهرة، والكل يعرفها.

Ad

ذهبتُ مع والدي، يرحمه الله، عام 1968 ليريني تلفريك جونية، لعدم مشاهدتي له من قبل، وعندما صعدنا إلى أعلى الجبل بواسطة التلفريك، وجدنا مقهى جميلاً، والجالس بالمقهى يرى تحته غابة من الأشجار، وتمتد حتى السهل ناحية البحر.

حان وقت العودة والنزول، والراكب يجب أن يكون حذراً جداً، لأن التلفريك لا يتوقف، بل يسير ببطء شديد. فركب والدي للنزول، وتذكَّرت في الحال أني نسيت "المسباح" على الطاولة، فرجعت على الفور لأخذه، واللحاق بوالدي، بواسطة الكبينة الثانية، فقد سبقني الوالد في الأولى، وركبت ولم يكن معي إلا سائحة فرنسية طاعنة بالسن، فتعطَّل التلفريك بمنتصف الطريق، ونحن عالقان في الهواء ما بين السماء والأرض. وكعادتي لا ألتزم الصمت، كبقية بعض الناس، وكل الأصدقاء يعرفون ذلك، فما البال ونحن الآن محشورون في مكان صغير لا يزيد طولاً وعرضاً على المتر ونصف المتر!

يبدو لدى السيدة العجوز رغبة في الحديث كسائر العجائز (الهذرة)، وباغتتني بسؤال مفاجئ: tu parles francais، بمعنى هل تتكلم الفرنسية؟ وكنت قد درست اللغة الفرنسية بدير الراعي الصالح للراهبات في حمانا لعامين متتاليين، وأجبت بخجل: oui je parle un peu... نعم أتحدث القليل من الفرنسية، فقالت: bien حسناً.

وراحت تنظر إلى ملابسي الكويتية، وتلمس وتتحسس "الغترة" بيدها، وقالت: tes vetements sont jolis ملابسك جميلة، ولا مفر من الرد، فقلت: merci beacoup شكراً جزيلاً. وبينما نحن في "الهذرة" مع هذه العجوز الفرنسية تحرَّك التلفريك، ووصل إلى الأسفل، وإذ بالوالد ينتظرني بالأسفل، وقد بدت على ملامحه علامات الانفعال والاستغراب الشديد، وقال: "اشعندك قاعد تهذر مع هذه العجوز، وأنا أحاتيك وخايف عليك؟ وبعدين كم مرة نبهتك لا تتكلم مع أحد لا تعرفه؟".

قلت: هي كانت تسألني وأنا أُجيب.

وإلى الملتقى بصور ومقالة أخرى عن لبنان الجميل.