تحتاج الأمم والدول إلى وقفات تاريخية في كل مرحلة من مراحل مسيرتها، لتقرأ وتراجع وتصحح مسارها. ولاشك أن منحنى الانحدار في الكويت بدأ من أواخر السبعينيات بالقرن الماضي، واستمر هذا المنحنى في النزول، والدولة تعاني سنة تلو سنة من الآثار السلبية لهذا الانحدار، وهو السر الذي يجعل الناس تتغنى بالماضي وتتوق إلى ما كانت عليه الكويت من ازدهار وتفوّق للدولة في كل المستويات، فقد كان التعليم متميزاً، وغدت الكويت في حينه مضرب مثل بين دول الخليج على النمط التعليمي المتطور، والثقافة رديفاً له، وبإشعاع فكري ناضج، والاقتصاد متيناً ومالية الدولة متنامية ومحفوظة، والرعاية الصحية رائدة ومريحة، والحريات مزدهرة ومضمونة كما أنها مسؤولة، والصحافة حرة وأمينة، والانضباط الإداري والإنتاجية الوظيفية ملموسة، وفرصها أقرب للعدالة، والحس الوطني مرهفاً، والعمل الشعبي والوطني متنامياً، والبرلمان صمام أمان وشريكاً بعجلة التوعية والإدارة، ورجال الحكومة على قدر المسؤولية، ومسيرة القضاء في تطور، فكانت الكويت عروس الخليج والدرة المضيئة داخلياً، ثم بدأ منحنى التراجع والانحدار، وزاد حدةً قبيل الغزو وبعده، حتى وصلنا إلى حالنا المحزن اليوم.

لم يكن ذلك حدثاً مفاجئاً ولا خافياً، فقد كان ملموساً ومتعاقباً ومرحلة تفضي للتي بعدها. فقد بدأت مقدمات نزول المنحنى يوم حُل مجلس الأمة عام ١٩٧٦ حلاً غير دستوري، ليشكل ذلك خروجاً على حالة التراضي والتوافق الوطني، التي ميزت مسيرة الكويت وعززت بناءها، وتفردت السلطة في إدارة البلد فاختلت معادلات جوهرية وعديدة، فقد مُست الثوابت الدستورية، وظهرت محاولات الاستقطابات على أسس غير سوية، فظهرت الترضيات والمحاصصة، وأُسندت الوزارات والمسؤوليات على أسس تنال من البناء الوطني، وبدأت تتوارى منهجية دولة المؤسسات وتزحف عليها ممارسات فردية تَفُتُّ عضدها، وتنهك مسيرة الدولة، وتوقفت مسيرة التنمية، وكان في أزمة المناخ الأولى والثانية دلالات على الانزلاق إلى مسيرة التراجع.

Ad

وعقب ذلك حُل مجلس الأمة حلاً غير دستوري مرة أخرى عام ١٩٨٦، وهبطت كل المؤشرات لدرجات مؤلمة من الانحدار، وثبت للسلطة والجميع أن إقصاء البرلمان وعدم الاعتماد على رجالات الكويت المخلصين، والتفرد بالأمور كانت نتيجته عكسية، فلم يكن مجلس الأمة سبباً لتعطل أحوال البلد، كما يدّعي البعض ويروّجون، ولما دخلنا حالة اللااستقرار في تكوين مجلس الأمة، وصار عرضة لتدخلات من قبل السلطة لتغيير تركيبته؛ أفرز لنا مجالس أمة تراوحت بين قوة وضعف، لكن سادت المريضة منها والمؤذية للبلد، ومرضت تبعاً لذلك كل أحوال البلد، وتفشت مظاهر الفساد، وتردت المؤسسات، وضاعت في دهاليز ذلك كل تنمية، وصار البلد مشروع شركة للتصفية، وتسابقت النفوس المريضة على نهبه، حتى وصلنا للحال المأساوي الذي تعيشه الكويت اليوم. فلم تعد نصوص تردع ولا قوانين تَجمع، ولا إدارة تُقنع، وتفككت المؤسسات وتوارت السلطات عن التأثير والتقويم، وسُلبت إرادة الأمة وأُفرغ الدستور وتقهقرت الدولة لأدنى المستويات. الكويت بحاجة يا أهل الكويت وَيَا مسؤوليها إلى قرارات شجاعة وملحة لانتشالها من مستنقع الفساد، ولإعادة الاعتبار لها ولسلطاتها، ولإحياء التوافق الوطني والرضا الشعبي، بإقصاء طبقة سياسية فاسدة وتخليصها من سلوكيات المنافقين والمتآمرين الذين تسيدوا المشهد العام، وأطبقوا على مفاصل القرار بالدولة، ولا يهمهم البلد ولا مصالحه، ولذا يقدمون الرأي والمشورة العليلة.

ورغم تردي أحوال البلد وحالة اليأس المنتشرة، فإن التفاؤل بصلاح شؤون الدولة حبل متين يحفه إيمان بالله لم ينقطع، ما دامت الكويت ولادةً لرجال مخلصين ديدنهم المثابرة لصلاح الوطن.