في 312م اعترفت الإمبراطورية الرومانية بالديانة المسيحية بعد سنوات من اضطهاد أتباعها، وفي 395م تم تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين غربي وعاصمتها روما، وشرقي وعاصمتها القسطنطينية، ومع نهاية القرن الخامس للميلاد تفككت الإمبراطورية الرومانية في الغرب وحل محلها ممالك جرمانية مهدت لنشأة الدول الأوروبية الحديثة، وأصبحت الإمبراطورية قاصرة على الجزء الشرقي.

في هذه الأثناء بدأ الإمبراطور جستنيان ببناء هذه الكاتدرائية 532م، وتم افتتاحها عام 537م، حيث استغرقت فترة البناء خمس سنوات، وكان يريد تشييد صرح ديني ضخم للأرثوذوكس الشرقيين يخلده، ولما احتل العثمانيون القسطنطينية وأسموها إسطنبول 1453م، حوّل محمد الفاتح الكاتدرائية إلى مسجد، ورفع فيها الأذان، وصلى فيها أول جمعة، وهناك من يدّعي أنه اشتراها، وهذا غير صحيح، فمن أسسها حولها إلى وقف للإرث المسيحي لا يجوز التصرف فيه.

Ad

وأعتقد أن ما قام به الخليفة العثماني يتعارض مع العهد الذي أعطاه النبي لأسقف بني الحارث بن كعب، وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم، بأن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير، من بيعهم وصلواتهم ورهبانهم، فلا يغير أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته ولا كاهن عن كهنته.

ووفق هذا الهدي الراقي المتسامح سار الخلفاء الراشدون، ثم الدولة الأموية والعباسية لم يقم أحد من خلفائهما بهدم كنيسة أو تحويلها إلى مسجد، ولم يعتدوا على أي أثر حضاري كان قائما في تلك الدول، لذا فما قام به محمد الفاتح يتعارض مع النهج الإسلامي المتسامح، ويؤكد من جهة أخرى أن العثمانيين لا يعيرون اهتماما للجوانب الحضارية والثقافية، لذلك نجد أن أوروبا، بعد سقوط القسطنطينية، استيقظت وسادت فيها نهضة علمية، في حين ساد التخلف في الدول التي سيطر عليها العثمانيون.

وفي عام 1935م حول كمال أتاتورك المبنى إلى متحف، وقد يناسب ذلك الحل الأثر المعماري الفريد من نوعه، فأفرغه من محتواه الديني ليصبح معلما من معالم السياحة، وخصوصاً بعد أن اعتبرته اليونسكو جزءا من إسطنبول القديمة، فحوله إلى مبنى أثري وأزال عنه صفة المكان المتنازع عليه، وفي 10 يوليو 2020 قضت المحكمة الإدارية العليا التركية بإلغاء وضع المبنى كمتحف، وأعادت العمل به كمسجد، ووقع الرئيس التركي على مرسوم يقضي بفتح معلم أيا صوفيا التاريخي كمسجد، وأن أول صلاة جمعة ستقام فيه 24/ 7 الجاري، وتعرضت هذه الخطوة لانتقادات واسعة من اليونان وروسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا واليونسكو وكثير من المنظمات الدولية الثقافية.

ورحبت جماعة الإخوان بهذه الخطوة المعيبة دينيا وحضاريا، وقالت بافتخار واعتزاز إن الحكومة التركية استعادت مسجد الفاتح، في حين عجز حكام العرب عن استعادة الأقصى، ولا أعرف وجه الشبه بين الحالتين، لكنهم تعاموا عن العلاقات الحميمة الاقتصادية والعسكرية بين أنقرة وتل أبيب.

فهذه الجماعة المشكوك بولاءاتها الوطنية، والداعمة للفتن والقلاقل، والتي لم تتردد عن ارتكاب جرائم اغتيالات سياسية في حق شخصيات وطنية ظناً منها أنها تمثل خطراً عليها، من الطبيعي أن تفتخر بعمل يعد عارا وخزيا على أصحابه من وجهة نظر أي إنسان طبيعي، لما يمثله من قهر وانتهاك لعقائد الآخرين ومشاعرهم.

وهذه الجماعة لا تعرف معنىً للعيب والعار، فقد نقلت نشاطها إلى إسطنبول وأصبحت تحت حماية الدولة التركية، وهدفها عودة دولة الخلافة العثمانية المكروهة من الدول العربية، فالفكر الأيديولوجي لهذه الجماعة يمثل خطرا جسيما على وطننا العربي.