مع تصاعد الحديث والتحقيقات بشأن تداعيات «الصندوق السيادي الماليزي» (1MDB)، بكل ما فيه من شبهات، عبر قنوات متعددة، إحداها الكويت، بالتزامن مع إلقاء الجهات الأمنية القبض على شبكة محلية متخصصة في غسل الأموال، إلى جانب تسرب معلومات بشكل متواصل عن تورط مشاهير «السوشيال ميديا» في عمليات مشبوهة؛ يثور أكثر من تساؤل بشأن المخاطر، التي تشكلها عمليات كهذه، على اقتصاد أي دولة ونظامها المصرفي، ودرجة الثقة بالتعاملات المالية والاستثمارية معها وفيها.

وفي الحقيقة، فإن تحول بلد مثل الكويت إلى بؤرة لغسل الأموال والعمليات المالية المشبوهة، كتضخم الحسابات البنكية، او التحويلات من حسابات المؤسسات الى اشخاص محددين، او استخدام الانشطة التجارية لتغطية تمرير أموال ناتجة عن انشطة أخرى مجرّمة، له ضريبة عالية؛ أقلها الإساءة إلى سمعة الكويت المالية والاقتصادية.

Ad

ارتباطات خطيرة

ورغم أن عمليات غسل الأموال -حتى الآن- لم تمس أموالا عامة للدولة، لكن آثارها على النظم المالية والاقتصادية، حتى الامنية، في البلاد، بالغة الخطورة، وربما تتجاوز حتى آثار السرقة او الرشوة في القطاع الحكومي، لأن عمليات غسل الاموال غالبا ما ترتبط بشكل وثيق بعمليات تمويل الارهاب، وبالتالي يتجاوز الخطر السمعة السيئة إلى احتمالات التعرض لإجراءات وعقوبات دولية على الكويت كدولة، او على بعض مكونات نظامها المصرفي من بنوك اجنبية او محلية، او شركاتها، خصوصا ان العالم بات بعد احداث 11 سبتمبر اكثر حساسية تجاه اي شبهة لو كانت محدودة تتعلق بعمليات غسل الاموال وتمويل الارهاب. وفي المقابل، لا تفتأ بعض الدول والجماعات وحتى عصابات الجريمة المنظمة تبحث عن منافذ لغسل اموالها، وبكل الاحوال ليس من مصلحة دولة صغيرة كالكويت ان تمثل بيئة لضغط او ابتزاز من الدول الكبرى، او ان تكون مسرحا لعمليات مجرّمة لجهات مشبوهة.

السعيد من اتعظ بغيره

ووفقاً لقاعدة «السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه»، فإن السنوات الماضية تخبرنا بأن النظام المالي العالمي -مهما كانت التحفظات بشأنه- اتسم بدرجة عالية من التشدد تجاه العمليات المالية المشبوهة، وأهمها غسل الاموال، فغرامة بنك «بي ان بي باريبا» الفرنسي فاقت 10 مليارات دولار، لانه ساهم لسنوات في عمليات مالية مشبوهة للتحايل على العقوبات الاميركية ضد إيران والسودان وكوبا، وكذلك شملت العقوبات والغرامات والتسويات بمبالغ متفاوتة بنوكا عالمية ضخمة مثل HSBC وباركليز وستاندرد تشارترد، وهذه بنوك ضخمة تعمل في بيئات عمل متشددة جدا ضد الجرائم المالية المشبوهة، ومع ذلك وجدت بعض الدول والجماعات في مصارفها ثغرات مكنتها من اختراق بعض الانظمة، فكيف سيكون الحال في دولة مثل الكويت لا تزال الجهة المعنية ميدانيا بتطبيق قانون 106 لسنة 2013 المعني بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بلا رئيس أصيل ولا كيان اداري واضح؟! مع الاخذ بعين الاعتبار ان وزن ونفوذ بعض الواردة اسماؤهم في عمليات غسل الاموال تمكنهم من إحداث اختراقات كبيرة في النظم المالية المصرفية.

«الأموال السهلة»

وبحسب مؤشر «بازل» لمكافحة غسل الأموال لعام 2018، فإن مركز الكويت من حيث انتشار عمليات غسل الاموال هو الـ90 عالميا (الأول هو الأسوأ)، وتأتي في الترتيب الرابع خليجيا؛ أفضل من الامارات والبحرين، وأسوأ من السعودية وعمان وقطر. أما الصدارة العالمية لأكثر الدول في مجالات غسل الاموال فهي لطاجيكستان وموزمبيق وأفغانستان ولاوس وغينيا بيساو، وهذا يشير الى ان انتشار العمليات المالية المشبوهة لا يحدث الا في الدول شبه المنهارة اقتصاديا ومعيشيا، وحتى أمنيا، مما يشكل عائقا امام دخول الاستثمارات الاجنبية إلى البلاد، مثلا، وأيضا يثبط تحفيز الاموال المحلية، والأخطر من ذلك كله أنه يشيع فكرة «الأموال السهلة» الناتجة عن عمليات مجرمة او مشبوهة، وبالتالي يصبح النموذج في الاقتصاد موجها لهذا النوع من العمليات، على حساب اي استثمار حقيقي تكنولوجي او صناعي او صحي او انتاجي، لأن الانشطة المشروعة لا تعطي عوائد العمليات المالية المشبوهة، ومن ثم تظهر طبقة طفيلية من الاثرياء لا تقدم للمجتمع او الاقتصاد اي منتج نافع، ولشيوع هذا السلوك ضرائب اجتماعية واخلاقية تتجاوز نظيرتها الاقتصادية المرتبطة، مثلا، بالتضخم او انحدار القيمة المضافة في السوق، أو يهوي بالعملة الوطنية

الجرائم الموازية

بل إن انتشار غسل الأموال في أي دولة يشجع بروز بيئة اعمال للعديد من الجرائم الموازية؛ كتجارة المخدرات والسلاح والبشر وغيرهما، وتصبح الجريمة هي الاساس في المجتمع، وبالتالي يصيب الوَهَنُ كل مناحي الاقتصاد، لأن الجريمة هي التي تحقق عائدا ماليا افضل من اي نشاط شرعي آخر، وهنا يقع الضرر، ليس فقط على سمعة الدولة، بل يتجاوزها الى خضوع مختلف الانشطة الاقتصادية؛ المصرفية والمالية والخدمية والمشاريع الكبيرة والصغيرة وحتى مؤسسات الدولة، لخدمة العمليات المالية المشبوهة، ولعلنا في الكويت لم نصل إلى هذا المستوى المنحدر من سيطرة الجريمة على الاقتصاد، لكن علينا التنبه لواقع تفشي هذا النوع من العمليات في السنوات الاخيرة، والعمل سريعا لتطويق آثارها والحد من نموها ومكافحتها، مهما تكن تحديات المواجهة قوية، لأن الفشل في هذا الملف ليس مماثلا لأي فشل آخر، إذ إن الانزلاق فيه سريع، ويحمّل الدولة والمجتمع فاتورة انهيار اقتصادي واجتماعي ليس من مصلحة أحد الوقوع فيه.

جدية وضريبة

لا توجد مكافحة للعمليات المالية المشبوهة، كالتي تقدمها الضريبة، وتحديدا ضريبتي الاعمال والدخل، لكن في الحقيقة طريق تطبيقها عسير ويصطدم بتحديات العدالة الاجتماعية والحساسية السياسية، وأخرى فنية تتمثل في مدى القدرة على ضمان الامتثال، ولعل ما بيدنا من خيارات محدود ويتمثل في تطبيق قانون 106 لسنة 2013 المعني بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، من خلال تفعيل اختصاصات وحدة التحريات المالية وبنك الكويت المركزي، مما يتطلب ارادة حكومية قوية لمواجهة اي تحدٍّ في هذا الشأن... والنجاح هنا وفي قضايا اخرى موازية كتجارة الاقامات قد يعطي مؤشرا ايجابيا على وجود توجُّه جديد في الإدارة العامة.