كان أمالريك يقود تلك السيارة. على بُعد 40 ميلاً من العاصمة الإسبانية، انحرفت المركبة عن مسارها واصطدمت بشاحنة. نجا جميع الركاب باستثناء أمالريك، فقد ثقبت قطعة معدنية في عمود التوجيه في المقود حلقه على الأرجح.

حين توفي أمالريك عن عمر يناهز 42 عاماً، لم يكن أشهر معارض سوفياتي. كان ألكسندر سولجينتسين قد نشر كتابThe Gulag Archipelago (أرخبيل غولاغ) وفاز بجائزة نوبل في الأدب وهاجر إلى الولايات المتحدة.

Ad

كذلك، نال أندريه ساخاروف جائزة نوبل للسلام لكنه اضطر لتسلمها غيابياً لأن الحكومة السوفياتية لم تمنحه تأشيرة خروج. لكن احتل أمالريك من جهته مكانة خاصة في أوساط الناشطين ممن خضعوا للتحقيق وتعرّضوا للاعتقال والنفي.

الحركة الديمقراطية الناشئة

بدءاً من منتصف الستينيات، تحرك المعارضون بعد حملة واسعة لاضطهاد الكتّاب والمؤرخين ومفكرين آخرين في عهد الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف. بنظر عدد كبير من المراقبين في الغرب، بدت هذه الحركة الديمقراطية الناشئة تمهيداً لتهدئة الحرب الباردة.

في صيف عام 1968، قبل أسابيع من وصول الدبابات السوفياتية إلى براغ، خصصت صحيفة "نيويورك تايمز" ثلاث صفحات لنشر مقالة بقلم أندريه ساخاروف حول "التقدم والتعايش السلمي والحرية الفكرية".

في حقبة الأسلحة النووية، اعتبر ساخاروف أن الغرب والاتحاد السوفياتي محكومان بالتعاون لضمان صمود الجنس البشري. كان النظامان قد شهدا شكلاً من التقارب في تلك المرحلة ويحتاجان إلى تعلّم معنى التعايش وتجاوز الاختلافات الوطنية واتخاذ الخطوات اللازمة لحكم العالم.

الرأسمالية والشيوعية

لكن عارض أمالريك هذه الأفكار كلها. في خريف عام 1970، نجح في تهريب مقالة قصيرة من كتابته إلى خارج الاتحاد السوفياتي. ثم نُشِرت بعد فترة قصيرة في مجلة "سورفي" التي تصدر في لندن.

اعتبر أمالريك حينها أن الرأسمالية العالمية والشيوعية على الطريقة السوفياتية لا تتقاربان بل تتباعدان بدرجة إضافية. حتى العالم الشيوعي بحد ذاته كان مُهدداً بالتفكك. زادت مظاهر انعدام الثقة بين الاتحاد السوفياتي والصين وكان يتجهان بكل وضوح نحو حرب كارثية. لتفسير هذه الأفكار، حملت مقالة أمالريك عنوان "هل يصمد الاتحاد السوفياتي حتى عام 1984"؟

عند النظر إلى مقالة أمالريك في عام 2020، بعد مرور 50 سنة على نشرها، يسهل أن نستنتج أنها وثيقة خالدة. لقد تطرّق إلى ما تفعله القوى العظمى للتعامل مع الأزمات الداخلية المتعددة، على غرار تصدّع مؤسسات النظام المحلي، وخداع السياسيين الفاسدين، وأولى الاضطرابات التي تكشف انهيار شرعية النظام القائم.

أراد بذلك أن يفهم المنطق الكامن وراء التفكك الاجتماعي والنتائج الكارثية للخيارات السياسية المتخبّطة. كان توقعه محدوداً من الناحية الزمنية ويُفترض أن ينتهي في عام 1984، لكن يسهل أن نسمع صداه اليوم. لمعرفة مسار انهيار القوى العظمى، لا شيء أفضل من دراسة آخر قوة عظمى انهارت في العالم.

شفير الهاوية

يظن أمالريك أن أفضل طريقة لتقييم الانقسامات السياسية تقضي بتحديد أجزاء المجتمع التي تصبح مُهددة بفعل التغيير وتلك التي تحاول تسريع ذلك التغيير، وتوقّع ما ستفعله الدول للسيطرة على الاختلافات بين الطرفين. يريد البيروقراطيون والسياسيون الاحتفاظ بمناصبهم، ويريد العمال تحسين مستوى معيشتهم، ويشكك المفكرون من جهتهم بالحقائق القديمة المرتبطة بالهوية الوطنية.

هذه الانقسامات قد تُهدد صمود مؤسسات الدولة. كتب أمالريك: "من الواضح أن الحفاظ على الذات هو المحرك الأساسي. كل ما تريده الحكومة هو استمرار الوضع السابق، أي الاعتراف بالسلطات القائمة وإسكات المثقفين وعدم زعزعة النظام عبر تطبيق إصلاحات خطيرة وغير مألوفة".

لكن ماذا يحصل في زمن الاضطرابات السريعة، حين يصبح استمرار وضع المراوحة مستحيلاً نتيجة التحولات الاقتصادية والتطور الاجتماعي والاختلافات بين الأجيال؟ يبقى القمع خياراً دائماً، لكن يستعمل الحكام الأذكياء نفوذهم بطريقة انتقائية، فيضطهدون كاتباً مثلاً أو يُقيلون مسؤولاً بارزاً لم يعد يرضخ للقيادة العليا.

حتى ان السلطات الأكثر ذكاءً قد تحافظ على نفسها "عبر إحداث تعديلات وإصلاحات تدريجية واستبدال النخبة البيروقراطية القديمة بمجموعة تتمتع بمستوى أعلى من الدهاء والمنطق".

لكن لا بد من التشكيك بمدى التزام الحكام بتنفيذ الإصلاحات التي يطرحونها. تجيد الحكومات رصد الاختلالات في أزمنة وأمكنة مختلفة، لكنها تعجز عن تحديد مظاهر الظلم في مؤسساتها الخاصة.

هذا ما حصل تحديداً مع قوى عظمى مثل الاتحاد السوفياتي برأي أمالريك. البلد الذي استطاع الإبحار إلى أي مكان بلا رادع وأوصل البشر إلى الفضاء الخارجي لم يكن مستعداً للنظر إلى مكامن الفساد داخلياً: "يعتبر النظام نفسه رمزاً للكمال ولا يرغب في تغيير أساليبه من تلقاء نفسه أو عبر تقديم التنازلات لجهات أخرى".

في غضون ذلك، اعتُبرت أدوات القمع القديمة (أي الستالينية في زمن السوفيات) رجعية وغير إنسانية وغير فاعلة في تلك الحقبة. كان المجتمع يزداد تعقيداً وتشوبه الخلافات وتوسّعت المسائل المطلوبة من الدولة رغم اقتناع الجميع بعجزها عن تلبية تلك المطالب.

نتيجةً لذلك، لم يبقَ إلا نظام سياسي أضعف بكثير مما اعترف به المسؤولون، حتى من التزموا بإعادة إحيائه.

نقطة الانهيار

حتى هذه المرحلة، كان أمالريك يتبع خطاً تحليلياً مألوفاً بالنسبة إلى ساخاروف ومعارضين آخرين. لم يكن الاستقرار يتماشى يوماً مع الإصلاح الداخلي. ينتقل أمالريك فجأةً إلى طرح سؤال بسيط: ما هي نقطة الانهيار؟ إلى متى يستطيع النظام السياسي أن يحاول إعادة ترميم نفسه قبل حصول حدث من اثنين: ردة فعل كارثية من الفئات المعرّضة للخطر بسبب التغيير المرتقب، أو إدراك صانعي التغيير أن تحقيق أهدافهم لم يعد ممكناً في ظل المؤسسات القائمة والأيديولوجيا التي يحملها النظام الحالي؟ في هذا السياق، حذّر أمالريك من ميل القوى العظمى إلى خداع نفسها وعزل بلدها، ما يضعها في موقف أكثر صعوبة.

تنفصل هذه القوى عن العالم ولا تتعلم الكثير عن التجارب البشرية المتراكمة. هي تعتبر نفسها محصّنة ضد المشاكل التي تصيب أماكن وأنظمة أخرى. هذه النزعة قد تتسلل إلى المجتمع في حالات كثيرة. حتى ان الطبقات الاجتماعية المتنوعة قد تشعر بأنها معزولة عن نظامها ومنفصلة عن بعضها البعض. لهذا السبب، يستنتج أمالريك: "هذه العزلة تنتج صورة شبه سريالية عن العالم ومكانة الناس في مخيلة الجميع، بدءاً من النخبة البيروقراطية وصولاً إلى أدنى الطبقات الاجتماعية. لكن كلما سهّلت هذه الظروف استمرار وضع المراوحة، يصبح انهيار البلد سريعاً وقوياً عند مواجهة الواقع".

المصاعب الاقتصادية

لا شيء يثبت أن الاصطدام بالواقع يهدد مجموعة محددة من النُخَب دون سواها. في الظروف المناسبة، قد يكون البلد ككل سبباً لانهياره الوشيك. حدّد أمالريك في مجتمعه أربعة عوامل كامنة وراء هذا المسار. يتعلق العامل الأول بـ"التعب الأخلاقي" الذي يشتق من سياسة خارجية توسعية تليها حرب لامتناهية. يرتبط العامل الثاني بالمصاعب الاقتصادية التي يسببها الصراع العسكري المطوّل (كان أمالريك يتوقع اندلاع حرب بين السوفيات والصينيين). أما العامل الثالث، فيتعلق بعدم تحمّل الحكومة تعبير الناس عن استيائهم وميلها إلى قمع "مظاهر الغضب الشعبي المتقطعة أو أعمال الشغب المحلية" بطريقة عنيفة.

تتخذ حملات القمع منحى وحشياً على الأرجح حين يكون القامعون، أي الشرطة أو قوى الأمن الداخلي، من جنسية مختلفة عن الشعب الذي يرتكب أعمال الشغب، ما يؤدي إلى تأجيج العداوة بين مختلف الجنسيات.

الأقليات العرقية

لكن كانت نزعة رابعة مسؤولة عن انهيار الاتحاد السوفياتي نهائياً: ظنّ جزء كبير من النخبة السياسية أنه يستطيع أن يضمن مستقبله بأفضل طريقة عبر قطع علاقته مع العاصمة الوطنية. افترض أمالريك أن هذا الوضع قد يحصل بين الأقليات العرقية السوفياتية، "أولاً في منطقة البلطيق والقوقاز وأوكرانيا، ثم في آسيا الوسطى وعلى طول نهر الفولغا". سرعان ما تبيّن أنه توقّع صائب.

بشكل عام، كان أمالريك يظن أن النخب المؤسسية تواجه مرحلة مفصلية في زمن الأزمات الحادة. في هذه الحالة، هل تتمسك بالنظام الذي يعطيها السلطة أم تعيد طرح نفسها كشخصيات حكيمة تدرك أن السفينة تغرق؟ حين يتّضح أن النظام بدأ يفقد سيطرته على البلد وأصبح منفصلاً عن الواقع، يميل القادة الحكماء على الهامش إلى الحفاظ على مكانتهم، فيتجاهلون بكل بساطة تعليمات المسؤولين الأعلى مستوى. في هذه اللحظات الشائكة، يكون أي نوع من الهزائم الكبرى (استياء شعبي هائل في العاصمة على شكل إضرابات أو اشتباكات مسلحة) كافياً لإسقاط النظام. في الاتحاد السوفياتي، توقع أمالريك انهيار النظام بين عامي 1980 و1985.

توقعات دقيقة

لم يُصِب أمالريك في تحديد تاريخ التفكك، فقد انهار بلده بعد سبع سنوات من الفترة التي توقعها. أدت محاولات ميخائيل غورباتشوف إضفاء طابع ليبرالي وديمقراطي على الدولة إلى نشوء مجموعة من القوى التي جعلت الاتحاد السوفياتي يختفي على مر عام 1991.

في نهاية ذلك العام، تنحى غورباتشوف من منصب الرئاسة وانهار البلد تحت أقدامه. لكن وفق التخمينات السياسية المبنية على الأحداث التاريخية حول العالم، يستحق أمالريك على الأرجح جائزة على دقة توقعاته.

لقد كان محقاً في توصيفه للمشهد العام. في حالة الاتحاد السوفياتي، لم يكن الإصلاح يتماشى مع استمرارية الدولة بحد ذاتها.

كان أمالريك ميتاً حين بدأ الأكاديميون وخبراء السياسة الغربيون يكتبون تاريخ الأحداث في أواخر القرن الماضي. لكن في بداية التسعينيات، اتّضحت أهمية تحليلات أمالريك أخيراً. كان يدرك على ما يبدو ما سيحصل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي: نشوء مجموعة من الدول المستقلة، ظهور اتحاد جديد تطغى عليه روسيا، انتساب جمهوريات البلطيق إلى "اتحاد أوروبي جامع"، نشوء نسخة متجددة من النظام القديم في آسيا الوسطى تجمع بين الممارسات السوفياتية والاستبداد الداخلي. فيما كان مؤيدو العولمة ومعارضو الانتشار النووي يجاملون ساخاروف ويغذّون أوهامهم حول التعايش مع إمبراطورية مستبدة، كان يُفترض أن يتنبهوا إلى تحليلات أمالريك. لو فعلوا ذلك، كانوا ليطلقوا مواجهة مبكرة مع الدولة السوفياتية المترنحة ويسرّعوا انهيار الشيوعية.

لكن أخطأ أمالريك في تحليلات كثيرة أخرى، كتلك المرتبطة باندلاع حرب سوفياتية ـ صينية. كانت هذه الفرضية من ركائز تحليله. كما أنه بالغ في تقدير تداعيات أعمال العنف المرتبطة بانهيار الاتحاد السوفياتي. تفكك هذا الكيان بطريقة سلمية لم يتوقعها أحد، لاسيما في ظل الخلافات الحدودية الكبرى وتصادم الهويات القومية وتفاقم المنافسة بين النخب الحاكمة في أكبر بلد في العالم.

خلال ثلاثة عقود، أعادت روسيا ترسيخ نفسها كقوة عظمى قادرة على تنفيذ هدفٍ لم ينجح السوفيات في تحقيقه يوماً: فهم الانقسامات الاجتماعية الأساسية بين خصومها واستغلالها، بدءاً من الولايات المتحدة وصولاً إلى المملكة المتحدة، تزامناً مع ترك الآثار السياسية والاستراتيجية المنشودة. لم يتوقع أمالريك أيضاً احتمال تلاقي الشرق والغرب بطريقة مختلفة، فقد نشأت طبقة أوليغارشية رأسمالية مهووسة بالمراقبة وغير متساوية بأي شكل، وهي تعمد إلى مراقبة حقوق الإنسان بطريقة انتقائية وتتكل على سلاسل الإمدادات العالمية وتبدو هشة تجاه تقلبات الأسواق والميكروبات. كان أمالريك ليتفاجأ على الأرجح حين يدرك أن "التعايش السلمي" الذي تكلم عنه ساخاروف اتخذ هذا الشكل تحديداً، خلال فترة معينة على الأقل.

كوكب الزهرة

كتب أمالريك في نهاية مقالته الصادرة في عام 1970: "الصواريخ السوفياتية وصلت إلى كوكب الزهرة. لكنّ الناس في القرية التي أعيش فيها يزرعون البطاطا حتى الآن بيدهم". قام بلده باستثمارات كثيرة لمواكبة خصومه وبذل جهوداً كبرى لمنافسة الدول باعتباره قوة عظمى عالمية. لكنه لم يتعامل مع مسائل جوهرية أخرى. بقي المواطنون في هذا البلد عالقين على طريق التنمية الاقتصادية ولم يفهموا بعضهم البعض ولم يفهمهم حكامهم. في ظروف مماثلة، كان المستقبل المبني على إرساء الديمقراطية تدريجاً وإقامة تعاون مثمر مع الغرب مجرّد وهم برأي أمالريك. أمام سلسلة من الصدمات الخارجية والأزمات الداخلية التي تزامنت مع احتدام المنافسة مع جهات حيوية وقابلة للتكيف مع الظروف، كانت مظاهر الحياة في بلده ضئيلة بطريقة لم يدركها أحد في تلك الفترة.

جميع البلدان لها نهاية، ويمرّ كل مجتمع بأسوأ الظروف في مرحلة معينة لكن تختفي المشاكل لفترة وراء مظاهر قاتمة أخرى قبل أن يصبح الانهيار وشيكاً. لقد كان أمالريك واضع نظريات ذات ظروف خاصة، ولطالما آمن بالقضاء والقدر على مستويات عدة. كان يظن أن الاتحاد السوفياتي يفتقر إلى الحنكة اللازمة لتطبيق إصلاحات قادرة على زعزعة النظام وضمان صموده في الوقت نفسه، وكان محقاً في رأيه. لكنه أراد أن يكشف للمواطنين في بلدان أخرى، حيث تختلف الهياكل الداخلية، المظاهر المقلقة التي تستحق الانتباه. لقد اقترح تقنية لتعليق أعمق الخرافات السياسية الشائعة وطرح أسئلة قد تبدو في الوقت الحاضر أشبه بنزوات عابرة.

التحقيق الذاتي

لن تكشف هذه المنهجية عن سر الخلود السياسي. لكن من خلال استكشاف الأسباب المحتملة لأسوأ النتائج التي يمكن تخيّلها، قد يصبح التعامل بذكاء مع الخيارات الصعبة والمُلحّة التي تستطيع تغيير طبيعة السلطة ممكناً. إنها الخيارات التي تجعل السياسة أكثر تجاوباً مع التغيير الاجتماعي وتزيد قيمة البلد التاريخية. أصحاب السلطة ليسوا معتادين على التفكير بهذه الطريقة. لكن في أوساط المعارضين والمنفيين في المراتب الأدنى المستوى، يضطر الناس لإتقان فن التحقيق الذاتي، فيتساءلون: إلى متى نستطيع البقاء في مكاننا؟ ماذا نضع في حقائبنا؟ كيف نصبح مفيدين هنا أو هناك؟ في الحياة، كما في السياسة، لا يُعتبر الأمل مضاداً لليأس بل التخطيط المدروس.

* تشارلز كينغ